التقطت قنوات التلفزة حول العالم صور المظاهرات في مصر كبكاء شعبي للحرية والديمقراطية، كصورة رائعة لأمة انتفضت رفضا لحالها الأليم، وكقوة خفية امتلأ بها مكان خالد فأدت إلى حكاية تاريخية لا تتكرر..
ولكن تلك الصرخة الشعبية الهائلة في مصر وقبلها في تونس لم تكن – في رأيي – بحثا عن الحرية والديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية، فهي قيم لم تكن يوما جزءً أصيلا من عقل الإنسان العربي، بل كانت صرخة غضب ضد الفساد الذي استشرى في كل مكان، وضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي، وضد العجز الكامل على إدارة الأمة وحل مشكلاتها والتقدم بها، وضد الطبقية الهائلة التي لم يلتفت أحد لعلاجها.
“إنه الاقتصاد يا غبي”؛ كان شعارا أطلقه جيمس كارفيل والذي أدار الحملة الانتخابية لبيل كلينتون في 1992، وذهب مثلا يستخدم في كل مكان للدلالة على قيمة الاقتصاد الهامة في حياة أي أمة.
وكارفيل، عندما قال يا غبي، كان يقصد جورج بوش الأب الذي راح يتاجر بانتصاراته في حرب الخليج في حملته الانتخابية متناسيا أن الشعب الأمريكي يعيش في وضع اقتصادي متدهور، الأمر الذي جعله يخسر الانتخابات، وجاء من بعد كارفيل مئات الكتاب الذين وجهوا هذه العبارة في وجه كل قيادي أو زعيم يظن أن طريق المجد لا يمر عبر الاهتمام بحياة عموم الناس وتأمين احتياجاتهم !
مشكلة كثير من الزعماء السياسيين في العالم الثالث أنهم يقعون في دوائر متشابكة من شراء الولاء والمجاملات وتأمين المصالح الشخصية، والتي تتسع عبر السنين بحيث يصبح من الصعب قطعها، وهم بذلك يضحون بمجدهم السياسي الحقيقي وبمصالح الأمة التي يحكمونها، ويضحون في النهاية بقوتهم السياسية التي كانوا في الأصل يحاولون حمايتها.
إن دول العالم العربي تحتاج لروح جديدة قد تستفزها أحداث 2011، وهي روح تسعى بكل جهد ممكن لعلاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي تعاني منها الدولة، وتسعى لحماية الطبقة الوسطى في المجتمع، وتهدف لوضع الإنجاز الإنساني محل تقدير، وتحاول حماية احتياجات الشباب، وتضرب بيد من حديد ضد الفساد والرشوة وحماية مصالح الأقلية المتنفذة، وتنشر روحا وطنية تبحث فقط عن مصالح الناس، وتحول الشعب إلى خلية من النحل التي تعمل على التقدم بالدولة وتنمية مواردها الاقتصادية والاجتماعية.
بعض الحكومات العربية أخذت رد فعل عكسي مما حدث في مصر فشددت من قبضتها الأمنية خوفا من القادم، ولكن ما تحتاجه هذه الدول وغيرها هو في الحقيقة إلى مدير ذكي يعيد “هيكلة” الدولة ووضع أهدافها، ويضع الخطط العملية لتنفيذها، وإلى حاكم يحمي هذا المدير والذي سيحاربه الجميع، ويؤمن أن هذا هو الحل الذي سيؤمن مجده السياسي، ويجعل الشعوب تنادي باسمه في النهاية.
لقد استشرى الفساد في كثير من الأنظمة العربية مما جعل الشعوب تشعر بأن الأمل مفقود، ومن يفقد الأمل مستعد ليحرق نفسه.
علاج الفساد ممكن من خلال حل سحري اسمه “الشفافية”، ولكنه قبل ذلك يحتاج للحاكم الذي يقرر فعلا وبلا هوادة أنه مستعد للتقليل من دائرة الأقوياء من حوله، بحيث يصبح الوزير مسؤولا عن وزارته وتحقيق الإنجازات في آخر كل عام دون أن يسرق نصف الميزانية، ويهدر النصف الثاني.
بالمقابل، إن سر الاستقرار في بعض الدول العربية يعود في الحقيقة لهذه النقطة، فهناك بحث معقول عن حل المشكلات، وهناك اهتمام بمصالح الناس، وهناك رغبة في الاستفادة من الثروات في تقدم الدولة، والمزيد من ذلك يعني المزيد من الاستقرار السياسي، والتماسك الأمني، دون الحاجة للهراوة التي لا ترحم، أو الدبابة التي تخلق الجروح التي لا تندمل.
إن روعة النص الشرعي والتراث الإسلامي هو ذلك التشديد الحاد ضد الظلم والفساد والرشوة والفقر، وهو تشديد متوافق مع احتياجات الإنسان، وقد قال السلف بأن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة، وهذه سنة كونية حقيقية، فلا شيء يفتت عزم الأمم ويضعف قدرتها على التقدم والمواجهة مثل الظلم.
الفساد ليس فقط انتشار الرشوة كما يظن البعض، بل هي كلمة شاملة لكل القرارات الخاطئة التي يتخذها صانع القرار، لأنه لم يهتم إلا بمصالحه ومصالح من حوله، وهي في النهاية كلمة تلخص مأساة أمة تعاني من مشاكل يومية هائلة تستمر عبر السنوات، ومأساة أجيال تبحث عن المستقبل وعن الأحلام وعن لقمة العيش الكريمة وعن المساواة وعن حياة بلا قهر وعن حقوق بسيطة لهم ولأولادهم، وعندما يفقدونها لفترة طويلة زادت عن عقود من الزمن في الحالة المصرية، فإن أقل ما سيحصل هو ما حصل في ميدان التحرير..
قاتل الله “المفسدين في الأرض”..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية