دبلوماسيو المستقبل: مبدعون ورواد أعمال

من قسم سياسة
الأربعاء 16 أكتوبر 2019|

ربما كان الحلم الجميل لكثير من الناس أن يصبح “سفيرا”.

السفير في عرف الجمهور هو شخص يستمتع بالكثير من السفر والفخامة في حياته، بالإضافة للمكانة الاجتماعية الراقية كممثل لبلده، وهو شخص يحضر الكثير من الاجتماعات المغلقة، حيث يتحدث الجميع بشكل منمق حول “العلاقات بين البلدين”.

هذه الصورة لا تمثل الحقيقة الكاملة بالطبع، فالدبلوماسية فن يتطلب الكثير من الخبرة والقدرات الشخصية والثقافة، وهو عمل معقد، ولكن الحقيقي والمؤكد أن هذا التعقيد سيزداد في المستقبل القريب، لأن العالم كله يزداد تطورا وتداخلا، بحيث سيتطلب العمل الدبلوماسي الكثير من الثقافة والمعرفة المتخصصة والتقنية، كما سيتطلب الكثير من الإبداع والقدرات الاتصالية كذلك.

لعل أهم صفات القرن الـ21 هو عبور التقنية وتطبيقاتها وشركاتها للقارات، وهذا ينطبق على الشبكات الاجتماعية التي تسيطر على حصة كبيرة من إنتاج المحتوى والحوار الاجتماعي والدخل الإعلاني في كل دولة، ومنصات التجارة الإلكترونية، والخدمات الرقمية والترفيهية، وقريبا جدا المنصات التعليمية التي سيلجأ إليها الناس بديلا عن التعليم التقليدي. بالنسبة للدبلوماسي، ستتحول القضايا التقنية لجزء من أجندة اجتماعاته ومفاوضاته مع الدول الأخرى: قضايا الخصوصية، وجمع البيانات الضخمة من منصات في دول أخرى، والحروب السيبرانية، بالإضافة لقضايا علمية مثل التغيرات المناخية وأزمات المياه.

هذه العولمة في صميم مفهومها مخالفة لمفهوم السيادة الذي يدافع عنه كل دبلوماسي، وهي تمثل تحديا هائلا، وجزء من هذا التحدي هي المعرفة المتخصصة التي يحتاجها الدبلوماسي ليستطيع تمثيل مصالح دولته بالشكل اللائق.

هذا الاحتياج سيفرض على وزارات الخارجية حول العالم تغيير هيكلتها التنظيمية، بحيث تضم بالإضافة للسفراء الخبراء المتخصصين في كافة المجالات، وبحيث يتشابك عمل السفراء مع الخبراء لتحقيق الأهداف العامة للوزارة.

بعض المتخصصين يقول بأن العولمة ستفرض على كل مؤسسة حكومية أن يكون لها نشاط دولي، مما سيمثل ضغطا على السفارات لتمثيل كل هذه الاهتمامات، وتغييرا للطبيعة التقليدية للعمل الدبلوماسي.

في ألمانيا مثلا، تبنت وزارة الخارجية الألمانية فكرة غرفة العمليات المفتوحة (Open Situation Room)، فعندما تكون هناك أزمة أو قضية، يحضر كبار المسؤولين والدبلوماسيين، بالإضافة لشباب من رواد الأعمال، والمبدعين، والعلماء الشباب، وحتى صناع المحتوى والمؤثرين على الشبكات الاجتماعية، ليشاركوا في معالجة الأزمة وإيجاد الحلول لها.

هذا يعني أن الإبداع سيصبح صفة أساسية للدبلوماسي الناجح، ليس فقط لإيجاد حلول جديدة للمشكلات الكثيرة التي تولد مع كل صباح. الوصفات الجاهزة في التعامل مع كل تحدي دولي، هو ما يعتمد عليه الدبلوماسيون الكسالى اليوم، سيصبح أمرا من الماضي قريبا جدا.

هناك حاليا محاولات لتطوير آليات لإنتاج أفكار أكثر تخدم عمل السياسة الخارجية. مثلا، سويسرا، ذات التقاليد الدبلوماسية العريقة، يخدمها مركز أبحاث اسمه (Foraus) والذي يعمل على فتح عصف ذهني حول القضايا التي تمثل مستقبل الدبلوماسية وتطور عمل السياسة الخارجية، ويستقطب مئات الدبلوماسيين الشباب. واحدة من مشاريعها خاص مثلا بالتقنية المالية (فنتك) حتى تخدم القطاع المالي السويسري عالميا. الفكرة الأساسية هنا هي عصف جماعي على مستوى مئات المهتمين بالشؤون الدبلوماسية والسياسية، حتى يتم الخروج بأفكار خلاقة وفعالة في الوقت نفسه.

مثل هذا الإبداع هو ما سيتطلب نشوء جيل من رواد الأعمال من نوع خاص جدا، أولئك الذين يبتكرون مبادرات دولية لها تأثير دبلوماسي إيجابي، ويأخذون على عاتقهم المخاطرة والعمل المتواصل لتحقيق النجاح لتلك المبادرات.

من أهم تطورات الدبلوماسية اليوم هو انبثاق ما يسمى بـ”الدبلوماسية الرقمية”، أي استخدام التقنية الرقمية في بناء صورة ذهنية إيجابية للدولة، وكسب عقول وقلوب شعوب الدول الأخرى، والتفاعل اليومي معهم عبر الشبكات الاجتماعية. الدبلوماسية الرقمية تعني الوصول للشعوب مباشرة، بحيث تستغل قوة الرأي العام في الدول الأخرى ليس فقط للضغط على الحكومات وإنما لجذبهم سياحيا وتجاريا وفكريا.

الدبلوماسية الرقمية تصاعدت مع تصاعد مفهوم آخر هو الدبلوماسية الشعبية أو الدبلوماسية العامة. هذا النوع من الدبلوماسية سيتصاعد في السنوات العشر القادمة، وهو أيضا سيحتاج الكثير من الإبداع في صناعة البرامج والمبادرات والرسائل الجذابة، حتى يمكن كسب اهتمام الجمهور المشتت وإقناعه بمضمون هذه الرسائل والمبادرات.

محصلة هذا كله أن الدبلوماسي سيحتاج للقدرة الاتصالية التي تؤهله للتعامل المميز مع الشبكات الاجتماعية. لم يعد ممكنا تجاهل الجمهور في أي دولة، لأن هذا التجاهل قد تنتج عنه أزمات حقيقة. أضف إلى ذلك، أن السياسيين أنفسهم صاروا مؤثرين على الشبكات الاجتماعية، ويقومون ببث رسائلهم من خلالها، ولعل نموذج الرئيس ترامب الذي لا يكتفي باستخدام تويتر للحديث في الشأن السياسي الخاص، ولكنه يستخدم أسلوبا غير دبلوماسي في كثير من الأحيان، ويتطلب من الدول تعاملا ذكيا معه، والجدل الذي حصل مع الدنمارك حول شراء جزر جرينلاند هو مجرد مثال من عشرات الأمثلة من هذا النوع.

هذا كله يهدف في النهاية لبناء “القوة الناعمة” للدولة، وبناء “العلامة الوطنية” (Nation Branding)، والتي سيكون لها أهمية بالغة في عالم المستقبل لتحقيق أهداف الدول.

هناك سؤال دائم فيما إذا كانت العولمة المتزايدة ستقتل الحاجة للدبلوماسيين في المستقبل لأن كل تواصل سيكون دولي. في رأيي، المستقبل سيكون لصالح الديبلوماسية لأن تعقيد العالم والتأثيرات المتبادلة بين الدول وزيادتها ستفرض الحاجة للدبلوماسيين الحيويين والمثقفين، وليس “المخمليين” الذين نحلم بحياتهم الجميلة أحيانا !

* نشر على موقع قناة الحرة الأمريكية (alhurra.com)