ألقيت في العام الماضي محاضرة عن فوائد الإعلام الرقمي في مؤتمر في العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد حديث حماسي مطول عن التطور الهائل الذي يحدثه الإعلام الجديد، قامت سيدة لتلقي السؤال الأول، وبينما كنت أنتظر تفاعلا كبيرا من الجمهور، جاء السؤال مختلفا تماما عندما بدأت تعبر عن إحباطها الشديد من الإنترنت لأنه شتت أسرتها وحول جميع أبناءها إلى جزر منعزلة وصار من الصعب الحصول على حديث عائلي شيق بعيدا عن تدخلات الموبايل واللابتوب.
هذه واحدة من المشكلات التي تواجه الناس مع التقنية الرقمية من الناحية الاجتماعية والأخلاقية، وهو أمر حتمي مع التغيير السريع جدا في عاداتنا وحياتنا والذي يحصل دون أن تواكبه الأطر التربوية التي تحمي الناس من الجوانب السلبية لهذا القادم الجديد.
ولكن المؤكد بناء على الكثير من الدراسات حتى بات ما يشبه بديهيا أن تطور الأمم الاقتصادي والثقافي والعلمي بل والفكري كذلك مرتبط بتطور الإنترنت من جوانب عديدة وأهمها توفر الإنترنت لكل فرد بسرعة عالية متناسبة مع احتياجاته، بل إن الأمم المتحدة بدأت تعتبر الإنترنت من حقوق الإنسان الأساسية، وصارت ترعى البرامج التي توفر أجهزة الكمبيوتر والاتصال بالإنترنت للدول الفقيرة.
هناك نظريات علمية تتحدث عن الفراغ المعرفي (Knowledge Gap) بين الأمم المتصلة بالإنترنت والأمم غير المتصلة، وهناك دراسات عن تطور ضخم ممكن في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والطاقة لو توفر إنترنت سريع جدا في كل منزل ومكتب.
إلا أن هذا الأمر وصل أحيانا إلى حد التطرف والتبذير، كما يحصل حاليا في أستراليا، حيث لفت حاكم أحد الولايات الاسترالية “تاسمانيا” أنظار العالم إلى مشروع عملاق لتوصيل كل منازل ولايته بإنترنت سريع يصل إلى 100 ميجابيت في الثانية أي تقريبا 20 إلى 40 ضعف عن الإنترنت السريع “Broadband”، وكان الحاكم في جولة على الشركات الأمريكية الكبرى مطالبا لها بفتح فروع في ولايته “سكانها نصف مليون شخص” لتجربة ما يريدون تجربته على ولاية كل منازلها متصلة بالإنترنت السريع مجانا..!
هذا المشروع جزء من مشروع أسترالي عملاق يشمل الدولة كلها وتبلغ تكلفته 39 مليار دولار “خلال عدة سنوات”، ورئيسة وزاء أستراليا مصرة على أن هذا المبلغ له ما يبرره من الفوائد الضخمة التي سيجنيها المجتمع الأسترالي من “شبكة الإنترنت الوطنية”، فيما تقف المعارضة رافضة هذه التكلفة على أساس أن هناك الكثير من المنازل والمكاتب لا تحتاج هذه السرعة من الإنترنت، وبالتالي يتحول الأمر إلى تبذير لا داع له.
بينما سيحسم الناخب الأسترالي الأمر في شهر أغسطس القادم، تبقى الحاجة للإنترنت السريع جدا مسألة ملحة في مختلف أنحاء العالم لتنمية الأمة، وهو أمر ما زالت الكثير من الدول النامية تفتقد الوعي الكافي به بحيث تعمل بجدية لتلحق بقطار التقدم المنطلق بسرعة على سكك التقنية والمجتمع الافتراضي الرقمي، وهو ما يمكن تسميته بـ”التنمية التكنولوجية”
بعض الدراسات والكتب في هذا المجال قد تدفعك للقول في آخرها:
قل لي سرعة اتصالك بالإنترنت، أقل لك من أنت..!