مثلت قصة موقع “ويكليكس” اختبارا لواحد من أهم المبادئ إثارة للجدل منذ بدء الإنترنت في التسعينات الميلادية، والمتعلق بحرية الحركة والاستخدام بلا قيود للإنترنت في التعبير ونشر المعلومات.
هذا الجدل ليس مجرد نقاش حول قضية وطرح لوجهات النظر، بل هناك ما يشبه الصراع الحقيقي بين فئة من عشاق الحرية والتمرد وكسر قيود الحكومات والشركات والقوانين، والتي سرعان ما أدركت بعد ظهور الإنترنت للضوء أن الشبكة الجديدة يمكن أن تعطيهم كل ذلك بما يشبه الحلم الرومانسي الذي لم يتوقع أحد أن يحصل.
خلال التسعينات، حصلت تكتلات بين هذه الفئات، لتتكون طبقة اجتماعية “افتراضية” لا يجمعها مبدأ سوى محاولة الحفاظ على المكتسبات التي جاء بها الإنترنت، وانضم لهذه التكتلات سياسيون سابقون وصحفيون مميزون ومفكرون كبار _ ابتداء من نعوم تشومسكي _ وعلماء أكاديميون ورجال أعمال بالإضافة لمئات آلاف الشباب، وتمثلت أنشطة هذه التكتلات بإعادة صياغة مصطلح “الإعلام الجديد” ليمثل مصطلحا مضادا للإعلام الكلاسيكي، على أنه إعلام يتمرد على أروقة المؤسسة الصحفية وقيود الصناعة الإعلامية وتحكم المعلنين والأنظمة السياسية والقيود الاجتماعية، وتمثيل للحرية بأوسع أبوابها كما تخيلها أولئك الذين نظروا للحرية الفردية عبر القرون، وعلى إثرها ظهرت المدونات Blogs والتي بدأت كمحاولة من مجموعة من الصحفيين والكتاب لإيجاد صيغ حرة من الرأي الصحفي على الإنترنت.
في رأيي الشخصي كانت هذه الأفكار الجديدة إطارا لأقوى الأيديولوجيات حديثة الظهور خلال العقدين الأخيرين، واستفادت هذه الأيديولوجيا من تزامن انهيار الشيوعية السوفيتية قبل فترة بسيطة من ظهور الإنترنت مما ساهم في إحداث فراغ أيديولوجي لأولئك الذين كانوا يحملون الأفكار الاشتراكية ليستخدموها كأسلوب لرفض الرأسمالية الغربية، فيما جاء آخرون من أطر الديمقراطية المتطرفة ليلتقوا جميعا على حب القادم الجديد والاتفاق على حمايته.
هذا يفسر وسيفسر خلال الفترة القريبة القادمة تداعيات قصة موقع “ويكيليكس”، والذي تراه بعض هذه الفئات مرحلة من “الكفاح” لأجل الحفاظ على حرية الإنترنت، وهؤلاء سيقفون وراء الموقع بما في ذلك مجموعة “أنانيموس” Anonymous وهم مجموعة من الهكرز التي تنتشر في مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا وبينهم تنسيق معين منذ سنوات، والذين بدؤوا يوم الأربعاء الماضي بشن هجمات على مختلف مواقع الإنترنت انتصارا لموقع ويكليكس ضمن حملة Operation Payback، أي عملية دفع الثمن أو الانتقام.
هناك آخرون يرون أن قصة موقع “ويكليكس” هي قصة صنعتها الحكومات حتى توجد مبررات عالمية لوضع قيود وحصار على ثورة المعلومات وحريتها الواسعة، ويضرب هؤلاء مثالا بقصة أحداث 11 سبتمبر وكيف استطاعت الحكومة الأمريكية بسببها الضغط لفرض كمية هائلة جديدة من الأنظمة الأمنية على الأشخاص والأموال لمنع “أعداء أمريكا” من الحركة ضدها _ وكثير من هؤلاء طبعا يعتقد أن 11 سبتمبر مؤامرة أمريكية!، وأن المسألة هنا هي مجرد مقدمة حتى يعيش العالم كمية جديدة من القيود على عالم الإنترنت باسم حماية “الأسرار الاستراتيجية” والأمن القومي للدول، بدون معارضة كبيرة من الدول الأخرى.
الطريف في قصة مجموعة “أنانيموس” أنها تستخدم موقعي “فيسبوك” و”تويتر” في تنسيق حملاتها، حيث يستخدم قائد المجموعة “تويتر” ليقول: “ابدأ الهجوم الآن”، مع معلومات الموقع المستهدف التقنية، حتى تبدأ مجموعات الهكرز في ضرب الموقع في وقت واحد لإسقاطه.
هذا وضع الموقعين الكبار في حرج كبير لأنهما كانا دائما يحاولان بناء صورة ذهنية متعاطفة مع مجموعات الحرية والحيادية بالنسبة للإنترنت، وهي كمواقع تستفيد طبعا من هذه المساحات الحرة في نموها، ولكنها في نفس الوقت تعرف أنه عندما سيبدأ الجدل السياسي في أعقاب قصة “ويكليكس” وفرض القيود فإنهما سيكونان مستهدفان بهذا الجدل.
لقد واجه العالم الغربي أزمة حادة مع مجموعات التمرد والتي تكره “المؤسسة الرسمية” Anti-Establishment، ولكن الأزمة تعاظمت بعد ظهور الإنترنت لأنه مثل الإطار الذي وحد كل هذه المجموعات تحت سقف واحد، وظهر ذلك في تزايد حجم المظاهرات عند كل اجتماع اقتصادي أو سياسي للدول الكبرى، حيث تتظاهر مجموعة هائلة من الشباب الغربي الغاضب في الشوارع المحيطة بمقر الاجتماع.
قصة “ويكليكس” ثم قصة “أنايموس” ستسمح للحكومات الغربية والأمريكية بالذات بتمرير مجموعة من القوانين التي تضع قيودا على حرية الحركة على الإنترنت، وبالمقابل فإن هذا سيقابل بغضب هائل من تلك المجموعات.
إن أحد أبسط القوانين التي يمكن أن توضع تمثل في إيجاد بروتوكولات تقنية _ قد تأخذ عدة سنين لتنفيذها ولكنها ممكنة جدا _ تجعل كل حركة للشخص على الإنترنت مرتبطة بهويته الحقيقة.
نحن على أبواب فصل جديد من تاريخ ثورة المعلومات..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية