من المنطقي جدا أن تتساءل الشعوب عن هويتها الوطنية وما يميزها عن الشعوب الأخرى، ولكن هذا السؤال قد يثير الإشكاليات كما حصل في أوروبا حيث بدأ الناس يبحثون عن هويتهم ويعيشون صراعا بين شعورهم القومي المحلي وشعورهم الأوروبي.
وفي الحقيقة فإن سؤال الهوية موجود ضمن بعض الدول الغربية داخليا وليس فقط على مستوى التحالفات الإقليمية، ففي بريطانيا يتساءل الاسكتلنديون والإيرلنديون والإنجليز كل منهم على حدة عن تأثير الآخرين عليه من ناحية الهوية الوطنية، وقد بلغ هذا الأمر حدته في الأوساط الاسكتلندية العام الماضي إلى درجة أن عددا من السياسيين البريطانيين حذر من ارتفاع نغمة الصوت الانفصالي في هذه المقاطعات الذي لو تحقق له ما يريد لانتهى معه تأثير «المملكة المتحدة» في المنطقة إلى الأبد.
هناك حالة أكثر وضوحا لسؤال الهوية داخل الدولة الواحدة وهو مايحدث في إقليم كويبك بكندا والذي تعمل بعض المنظمات فيه يوما بعد يوم على الترويج لفكرة الانفصال عن كندا والاستقلال بالإقليم في دولة مستقلة، ويبرر ذلك دائما اختلاف المذهب الديني لإقليم كويبك _ الأغلبية مسيحيين كاثوليك بينما باقي كندا بروتستانت _ ولغته “فرنسية بينما اللغة السائدة في كندا هي الإنجليزية”.
وقد لا تمر عشر سنوات من الآن حتى يحصل استقلال كويبك فعلا بعد أن هزم الانفصاليون في آخر الاستفتاء وطني على الانقصال بفارق مئات الأصوات فقط.
بالطبع لم يكن التساؤل عن الهوية سؤالا متحضرا دائما بالشكل الحاصل حاليا في بريطانيا وألمانيا وغيرها بل كان سؤالا همجيا عنيفا متطرفا في حالتين بارزتين لايمكن الحديث عن الوطنية في قرننا العشرين دون التطرق لهما.
- الحالة الأولى هي حالة إقليم البلقان حين اعتقد الصرب والكروات أن المسلمين الألبان والبوسنويين هم عملاء تاريخيين للدولة العثمانية التي احتلت أرضهم لفترة طويلة من الزمن.
وكان الرد الوطني عنيفا جدا يدل على أن فهم العوامل التاريخية والنفسية التي أثرت في تلك المنطقة مازال قاصرا بعد.
العنف أيضا كان متبادلا بين الكروات والصرب، فالكروات تعاونوا مع النازيين في عام 1941 وأحدثوا مذابح في الصرب أدهشت النازيين أنفسهم حيث مات حوالي نصف مليون صربي _ بعض المؤرخين يشكك في مصداقية هذا الرقم _ في معسكرات الكروات، وجاء الصرب بعدها ليردوا الكيل كيلين ويتعاونوا مع الروس الشيوعيين وليسيطروا بعدها لعدة عقود على المنطقة.
كانت هذه العلاقات الخارجية للفئات العرقية في إقليم البلقان دافع جذري للصراعات الدموية فيها، وهذا مايجعل المؤرخين والمفكرين قلقين من البعد التاريخي والاستراتيجي لتدخل الناتو لصالح المسلمين في كوسوفا والذي يجعلهم في إقليم البلقان عملاء للدولة العثمانية ثم عملاء حديثين للإمبرالية الأمريكية وهي تهمة قاتلة في أوساط شعوب خرجت منذ فترة بسيطة من المظلة السوفيتية وتتأجج فيها المشاعر الوطنية المتطرفة.
- الحالة الثانية هي حالة روسيا الحديثة والتي ينقم فيها الوطنيون المتطرفون على جورباتشوف «المجرم»، الذي دمر القوة الروسية وسمح لدول الاتحاد السوفيتي بالانفصام عنها.
ويعتقد الكثير من المحللين الغربيين أن تنامي هذه المشاعر في السنوات التي تلت جورباتشوف، جعل خلفه الرئيس الراحل يلتسين، يلجأ إلى تفجير عدد من المباني في موسكو _ حسب تأكيد عدد من وسائل الإعلام الأمريكي الكبرى _ ويتهم بها الشيشان «الخائنون للوطنية الروسية»، ثم ليهاجمهم مؤكدا للشعب الروسي أنه كرئيس لن يتوانى عن إعادة أمجاد روسيا مهما كان الثمن.
يجدر بالذكر هنا أن بعض الدراسات تؤكد أن شركات السلاح الروسية الضخمة التي عانت من الإفلاس بعد تدهور النشاط العسكري لروسيا كانت وراء تنمية هذه الأحاسيس الوطنية في الشعب الروسي لضمان وجود حرب تستهلك الكثير من الأسلحة، وكانت كذلك وراء الحملة الإعلامية الناجحة التي قدمت الهجوم الضاري اللإنساني على الشيشان للعالم الغربي كسلسلة من صراع روسيا ضد «الأصولية الإسلامية».
ولولا دموية الهجوم على الشيشان الذي فاجأ العالم الغربي بعد الدرس الذي قدمه ليوغسلافيا لما تحرك أحد في الغرب بساكن ضد روسيا.
أخيرا بقي أن نشير أن كثير من صفوة الأمريكيين يرون في الحركات الوطنية في أنحاء العالم الأخرى وخاصة منها المحارب للعولمة ولسيطرة أمريكا وسيلة للحسود الضعيف الذي لم يجد وسيلة حضارية لمنافسة الأمريكيين، بينما يرى كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، أن الوطنية هي ملجأ الخائفين من العولمة وغير القادرين على استثمار حسناتها.
أيا كان الأمر فالوطنية في أوروبا في تنامي وفي اتجاهات عديدة ومتضاربة وقد تأتي بنتائج جذرية التغيير في العقدين القادمين من الزمن.
إن مناقشة هذه القضايا على المستوى المحلي في مختلف الدول العربية والإسلامية أمر في منتهى الحيوية لأننا في النهاية جزء من هذا العالم، وجزء ضعيف ومبتلى بكثرة الأعداء، ومثل هذه التوجهات الوطنية قد تعني الخير أو الشر للعالم العربي والإسلامي حسب الطريقة التي نتعامل بها مع هذه المتغيرات.
وكل عام وأنتم بخير!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية