كان منظر العديد من الأطفال النائمين مع أمهاتهم على رصيف الكوبري في أحد الدول العربية التي زرتها هذا الصيف مثيرا للكثير من الحرقة والألم لمأساة هؤلاء الفقراء الذين جاءوا للحياة وعاشوها وربما سيموتون دون أن يعرفوا معناها أو يذوقوا أيا من لذاتها.
ربما يتذكر المشاهد في تلك اللحظة قصة المليون لاجئ لبناني الذين “يسيحون” هذا الصيف خارج بيوتهم، أو قصة اللاجئين الفلسطينيين الذين ما زالوا كذلك منذ سنوات بعيدة جدا، وإذا كان هؤلاء يجدون أحيانا من يساعدهم بحكم أنهم في مركز الأحداث والاهتمام الإعلامي، فإن هؤلاء الفقراء على الرصيف لاجئون بالفطرة يولدون ويموتون دون أن يلتفت أحد لهم.
أينما خرجت من إطار دول الخليج، تجد الفقر كالكابوس المرعب والشبح الكاسر الذي غطى بملاءته السوداء على كل الأنحاء في العالم العربي، وكسى الناس بجبروته القاسي، ولكن في المقابل الكثيرون من أبناء هذه الشعوب لا يعرفون أن الاقتصاد الناجح هو السبيل المميز لنهضتهم وليس عن طريق أي من الأيديولوجيات التي شغلتهم لسنوات طويلة دون فائدة.
وحتى لا يساء فهمي، فأنا أؤمن طبعا بقيمة الفكر في نهضة الأمة، وأهمية وجود حوار أيديولوجي ذكي لتحديد مستقبلها، وأهمية العمل المكثف لتحقيق الأهداف التي تحددها الأيديولوجيا، ولكن هذا في رأيي يأتي كله بعد الاقتصاد، وبعد أن يحصل الفقراء على لقمة الطعام، ويصبح الشباب جزءا من القوة العاملة المنتجة في الدولة بدلا من أن يكونوا فقط بلا مهمة في الحياة سوى التسكع والبحث في إعلانات الوظائف والبحث عن فكرة عاطفية تعصف بهم أملا منهم في تحقيق وجودهم أو الهرب منه!
حتى على المستوى السياسي الدولي، لا يمكنك أبدا الدخول في صراع إذا كان اقتصادك مهلهلا.
لقد كان الدرس الصهيوني في منتهى الذكاء، فقد اعتمدت الحركة الصهيونية في بداية القرن على الوصول لوضع اقتصادي عالمي مميز، ثم انطلقت تسعى لتحقيق أهدافها مستخدمة المال الذي يشتري السلاح، والنفوذ الدولي، والسمعة الحسنة، ويشتري حتى التاريخ والجغرافيا.
الدرس سهل جدا، بدون الاقتصاد المميز، لا يمكن لأيديولوجيا أن تنجح في تحقيق أهدافها، ولا يمكن لوطن أن يناضل أو أن يحقق وجوده عالميا، والاقتصاد هنا لا يعني فقط الحصول على المال، بل القدرة على توظيفه بحيث يصبح قادرا بشكل ذاتي على النمو دون الحاجة للدفع الحكومي.
لقد أدرك بعض الأيديولوجيين العرب هذه الفكرة في السابق، ولكنه أخطأ الطريق فصار يطالب دول الخليج بأن تمول أحلامهم، وآمنت بعض الدول البترولية غير الخليجية بالفكرة نفسها فصارت تغدق المال على الثوريين الذين ضيعوا المال، وعاشت تلك الدول في فقر لا يختلف عن فقر جاراتها.
ما يحتاج الناس ليدركونه، أن نمو الاقتصاد واستمراره قويا هو الأساس الأهم الذي يجب حمايته لأنه الكفيل الوحيد لاستمرار الأمم في التقدم وتحقيق مكانتها وأهدافها وحماية ما تؤمن به من قيم ومثل عليا، وهذا الأمر تزداد أهميته في زمننا الحالي أولا لتطور النظم الاقتصادية من جهة، الأمر الذي يجعل بناء اقتصاد جيد لا يعني توفر المال فقط، بل توفر بنية تحتية وأطر قانونية متكاملة، و ثانيا لتطور التقنيات العسكرية والذي يشتريها المال فقط دون غيره.
لكن معظم الناس لم ولن يؤمنوا بما سأقول، وإلا لصار الناس لا يتغاضون عن انتشار الفساد الإداري في بلادهم بينما هم مشغولون بقضايا أقل أهمية، تثور ثائرتهم لها، وتكون هي محل نقاشاتهم بينما قطار التقدم متوقف وقد علاه الغبار وشبكات العناكيب بسبب عدم توفر الإطار الاقتصادي الذي يدعمه، ولو آمن الناس بأهمية الاقتصاد لكان التهديد بتدمير البنية التحتية للبنان والذي يعلنه العدو الصهيوني بين الحين والآخر معنى آخر مختلف تماما.
“إنه الاقتصاد يا غبي”، كان شعارا أطلقه جيمس كارفيل، والذي أدار الحملة الانتخابية لبيل كلينتون في 1992، وذهب مثلا يستخدم في كل مكان للدلالة على قيمة الاقتصاد الهامة في حياة أي أمة، وكارفيل، عندما قال يا غبي، كان يقصد جورج بوش الأب، الذي راح يتاجر بانتصاراته في حرب الخليج في حملته الانتخابية متناسيا أن الشعب الأمريكي يعيش في وضع اقتصادي متدهور، الأمر الذي جعله يخسر الانتخابات.
الإسرائيلي باراك، استخدم الشعار نفسه في عام 1999، وقال هذه العبارة في وجه نتنياهو، الذي وقع في الخطأ نفسه، وجاء من بعد كارفيل، مئات الكتاب الذين وجهوا هذه العبارة في وجه كل قيادي أو زعيم يظن أن طريق المجد لا يمر عبر الاهتمام بحياة عموم الناس وتأمين احتياجاتهم!
“لو كان الفقر رجلا لقتلته” هو نص لحديث نبوي شريف، والرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعلن في هذا الحديث غضبه على الفقر الذي يدمر الشعوب، وإيمانه بأن الإنسان يذهب إلى أقصى حد ممكن بما في ذلك القتل للتخلص من الفقر، لإدراكه صلى الله عليه وسلم حينها بقيمة الاقتصاد في تحقيق أهداف دعوته.
رحم الله اقتصاد لبنان..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية