عاش العرب خلال الشهرين الماضيين “مهرجانا ديمقراطيا” انتقل بين الانتخابات في فلسطين ثم العراق إلى الانتخابات المحلية في المملكة بالإضافة للنقاش الساخن حول الانتخابات القادمة في مصر والجزائر ولبنان.
لقد أثارت هذه الاحتفالية السياسية الشعبية الكثير من المشاعر وحركت نبض القلوب العربية التي تفاعلت بحماس غير عادي، وخاصة أن السياسة هي هواية العرب الأولى بلا منازع، ولم لا والسياسة صارت في أيامنا مثل العيش وسط ألعاب الفيديو.
لكن هذا الحماس لم يتجاوز مناقشة التفاصيل وشخصيات المرشحين، بينما الحديث عن القضايا “البرامج الانتخابية” في العراق أو فلسطين كان هامشيا، والأهم من ذلك أن حماس المفكرين العرب وأكاديميي العلوم السياسية بقي باردا وغير متجاوب مع هذا الحماس والتطور الشعبي.
أقول هذا لأن الممارسة السياسية يجب أن ترتبط دائما بنظرية تحكمها، ونعني بالنظرية هنا الإجابة على أسئلة كثيرة حول طبيعة النظام والممارسة السياسية مثل:
- كيف نسمح لعموم الناس بالانتخاب رغم وجود احتمال عدم قدرتهم على اختيار الشخص الأفضل؟ هل هذا لأن الانتخاب حق لكل إنسان أو لأننا نثق في قدرة المواطن على التفكير، أو لأن اختيار المرشح يجب أن يتناسب مع المستوى العام للناس حتى لو كان هذا المستوى منخفضا؟ وإذا كنا نثق في قدرة الناس على اختيار من يمثلهم فلماذا لا نثق في قدرتهم على ممارسة كافة شؤون حياتهم “وهو المنطق الذي انطلقت منه نظريات الحريات الشخصية”؟
- ماذا لو أثبتت الأيام خطأ الشعب في الاختيار لأن الشخص المنتخب ظهرت مساوئه بعد انتخابه وكانت لديه أفكار “جهنمية” غير مقبولة، ومن بالضبط يحدد إذا كانت الاجتهادات السياسية للشخص المنتخب صحيحة أو خاطئة إذا كان الأمر كله اجتهادا؟ من يحمي الشخص المنتخب عندما يتخذ قرارات لا تتناسب مع “عاطفة” الأغلبية أو “مصالح” الأقلية النافذة أو لا يتفهمها أعضاء الأجهزة السياسية الأخرى في الدولة نفسها “السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية”؟
- ماهي الثوابت التي لا يستطيع الشخص المنتخب تجاوزها؟ ومن يحمي هذه الثوابت ومن يحددها؟
- هل يميل العرب للديمقراطية الرومانسية الفرنسية التي تؤمن بتداخل الدين والقيم مع السياسة أم يؤيدون الديمقراطية البراجماتية البريطانية التي تطالب بإبعاد السياسي عن قيم الشعب والدين ما دام يعمل في النهاية لصالح الشعب؟
- هل يميل العرب للديمقراطية الاجتماعية التي تحمي المجتمع وحقوق الإنسان الضعيف أم الديمقراطية الرأسمالية التي تعطي كل الاهتمام لحماية وإنعاش النظام الاقتصادي؟
هذه الأسئلة وأسئلة كثيرة غيرها تشكل النظرية الديمقراطية، وهناك طبعا عشرات النظريات الديمقراطية التي تطورت عبر الزمن وساهمت في وضع البنية التحتية الفكرية للديمقراطية كما ساهمت في تطورها عبر الزمن بما يتوافق مع تطور ونضج الفكر السياسي العالمي.
لقد بقيت الديمقراطية مثار شبهة في العالم العربي على أساس أنها تتناقض مع الإسلام لكونها تعتمد على التشريع البشري بدلا من الدين كمصدر للتشريع، وهذا في رأيي فهم خاطئ للديمقراطية، فالنظام الديمقراطي إطار مرن يسمح لمختلف الأفكار والمعتقدات بالتفاعل من خلاله، وهو ببساطة ينظم عملية الاجتهادات بحيث تسيطر اجتهادات الأغلبية على النظام، ولو كانت الأغلبية من المسلمين فإن هذا يأخذ النظام بشكل تلقائي نحو اتجاهات الأغلبية.
هناك قضية أخرى أن معظم الأنظمة الديمقراطية أسست ثوابت لا يمكن الخروج عليها، فمثلا يوجد في النظام الأمريكي الدستور الذي يتضمن عددا محدودا من المواد التي لا يمكن للرئيس أو الكونجرس الخروج عليها، وفي حال وجود أي قرارات تتعارض مع الدستور فإن المحكمة العليا تتدخل لحماية الدستور وتعتبر قرارتها نافذة، ولا يمكن إلغاء قرارتها إلا بتغيير الدستور، وهو ما يتطلب دعم أغلبية الشعب الأمريكي.
تأسيس الثوابت خروج عن أصول الديمقراطية البحتة التي تضع كل القضايا في مساواة واحدة من حيث الإجراءات إلى الديمقراطية البراجماتية التي تعمل على تمييز القضايا الحيوية ذات العلاقة بـ”عقيدة الأمة” وبين القضايا الإجرائية.
في العالم العربي، كانت الممارسة الديمقراطية مجرد تقليد لشعوب تنعم بالرفاهية والرخاء السياسي، وأحيانا بناء على ضغط خارجي، وفي كثير من الأحيان محاولة للخروج من مأزق، لكن مهما كان الأسباب التي اضطرت العرب للجوء للديمقراطية والانتخابات، فإنها تبقى “تكتيكا” مرحليا لأنه غير مبني على نظرية معينة تجيب على كل الأسئلة ويؤمن بها عدد كبير من الناس، بحيث يطبقون هذه الممارسة السياسية عن قناعة تامة، ومستعدون للدفاع عنها بسبب قناعتهم في وجه الصعوبات.
نحن أيضا بحاجة لنظرية ديمقراطية لأن لنا ثقافتنا الخاصة بنا، ولنا طريقتنا في التفكير وظروفنا الحادة والغريبة، وعموما فهذا ليس بعيب، لأن كل نظام ديمقراطي في العالم مرتبط بعدد من النظريات التي تحكم حركته، وهذه النظرية _ إذا وجدت _ ستكون ملجأ لنا نحتكم إليها كلما أصابتنا الحيرة أمام مشكلة سياسية معينة.
أخيرا هذه النظرية ستمثل أيضا قاعدة التطوير الفكري بحيث يتم مراجعتها بين حين وآخر لإضافة الأفكار المستجدة التي تعالج نواقص وعيوب النظرية.
قد يسأل شخص عن أولئك المتشددين الذين يخافون من أي نظريات تقدم أطرا مختلفة عن أطرهم، أو عن أولئك الذين يخافون من أن تأتي الديمقراطية بمن يختلفون عنهم، ولهؤلاء أقول الحل السحري يكمن في نظرية “السوق الحرة للأفكار” التي تؤمن بالتفاعل الحر للأفكار بحيث تطرد الفكرة الجيدة الفكرة الرديئة.
هذه النظرية في رأيي ساهمت في تقدم العالم الإسلامي إبان ازدهاره وساهمت في تقدم الغرب لما اعتنقها، ولا شك أنها ستريحنا من كثير من مشكلاتنا لو أعدناها مرة أخرى لتكون جزءا من ثقافتنا، ولهذا طبعا حديث آخر..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية