عندما انقطعت بنا «الجسور إلى بغداد»!!

من قسم
الجمعة 17 سبتمبر 2004|

مضى الأسبوع الماضي وقلوبنا في بغداد، وكأن الرصاص الذي يتطاير في سماء عاصمة أمجاد العباسيين يسقط بعيدا آلاف الأميال فيخترق أرواحنا ويتركنا حائرين، غاضبين، مليئين بالحزن والدموع.

لم تكن فقط وفاة زميلنا مراسل قناتي العربية والإخبارية في بغداد على الهواء مباشرة، والتي كانت فاجعة أكثر من أن يحتمل الحرف التعبير عنها، ولم تكن أيضا القصص الإنسانية الرهيبة المرتبطة بوفاة كل واحد من العراقيين الذين ذهبوا ضحايا أعمال الإرهاب، بل كان هناك أيضا اختطاف الإيطاليتين سيمون باري، وسيمون توريتا، وزميلهم رعد عبدالعزيز، في المنظمة الإنسانية “جسور إلى بغداد”.

وقصة سيمون وسيمون ورعد، قصة حزينة لأنهم كانوا فريقا عمل لأكثر من عشر سنوات على رفع معاناة العراقيين، متحملين ظروف بقاءهم في بغداد خلال سنوات الحصار العجاف.

رفعت منظمة “جسور إلى بغداد” شعار محاربة الحصار المفروض على العراق، وبذلت جهود ضخمة منذ عام 1992، واستطاعت خلالها أن تكسب عددا كبيرا من المنظمات الإنسانية التي انضمت لهذا النداء مثل منظمة “أصوات البراري” الدولية وغيرها، ولما جاءت الحرب الأخيرة، حول هذا الفريق نفسه إلى دروع بشرية، ورفضوا مغادرة بغداد، وكانوا من خلال الإنترنت يخبرون العالم عما يحصل في العراق يوما بعد يوم، وكل كلماتهم تقطر غضبا على الجنود الذين تعاملوا مع العراق على أنها أرض معركة لا أرض حضارات يسكنها ملايين الأبرياء.

خلال الأسبوع الماضي، تلقيت عشرات رسائل البريد الإلكتروني من أصدقاء عملوا وعرفوا سيمون باري، وسيمون توريتا، ورعد عبدالعزيز.

أحد هؤلاء هي تريش شوه، والتي كانت أحد الدروع البشرية أثناء الحرب على العراق، وعادت لنيويورك لتنظم المظاهرة تلو الأخرى ضد احتلال العراق، وكانت آخر هذه المظاهرات أثناء مؤتمر الحزب الجمهوري الأخير، كما عملت على تنظيم مجموعة من الدروع البشرية لتذهب إلى النجف، ولكن الحرب وضعت أوزارها قبل أن ينطلق هؤلاء من أمريكا إلى العراق.

رسالة أخرى من سينثيا باناز، والتي كانت تروي كيف كان رعد، يتجول بين المؤسسات الإنسانية ليشرح لهم جمال الإسلام، وكان في نفس الوقت يعمل معهم عبر السنين متطوعا في دعم الخدمات الإنسانية ومدرسا في جامعة بغداد.

لكن قصص سيمون وسيمون، كانت مبهرة كامرأتين نذرتا حياتهما لخدمة الأطفال العراقيين والأسر الفقيرة، حتى أن الكثير من الناس في العراق تغيرت حياتهم للأسوأ بعد اختطافهم بسبب توقف الإعانات.

مؤخرا كانت منظمتهم تجهز حملة ضخمة للإغاثة والمعونات في الفلوجة، بعد حصولهم على قدر كبير من المعونات الشعبية الأوروبية لهذا الغرض.

وربما لا يعلم الكثيرون أن هناك مئات الآلاف من الأمريكيين والأوروبيين الذين نذروا أنفسهم لمضادة جهود الحرب وللدعوة لفكرة السلام ورفض العنف بكل أشكاله أيا كان مصدره وأيا كانت الجهة المستهدفة.

هؤلاء هم الذين يمولون هذه المنظمات الإنسانية، وهم الذين خرجوا في مظاهرات غير مسبوقة في العقود الأخيرة من الزمن في نيويورك وتورونتو ولندن وباريس وروما ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو وواشنطن وبروكسل ومدريد وبرلين احتجاجا على الحرب على العراق، وهم الذين فرشوا أجسادهم في طرقات نيويورك ليوم كامل ليشلوا المدينة وحركة السير فيها.

هؤلاء يفعلون ذلك ليس لأنهم فكروا في قضية الحرب على العراق وقرروا أن الحرب غير عادلة كما يظن البعض، بل لأنهم تعلموا عبر العقود، كما بدأنا نتعلم الآن، أن كل حرب هي حرب غير عادلة، وأن كل حرب يذهب ضحيتها الأبرياء وتتدمر بسببها المدنية، وأنك إذا لم تبذل كل جهد ممكن لإيقاف حرب ما، فإن الدول سرعان ما ستشن الحرب التي تليها.

كثيرا ما يعبر الأصدقاء الغربيون المنتمين لهذه المجموعات عن مفاجأتهم بضعف الدعم الشعبي الذي يلقونه في العالم العربي، ويتساءلون: كيف يمكن للعالم العربي والإسلامي الذي عاني أكثر من عانى خلال القرن العشرين من الحروب بأنواعها ألا يتضمن منظمة أو جماعة واحدة تؤمن بالسلام كمبدأ وتقف معنا في مواجهتنا للحروب وأعمالنا الإغاثية؟

والجواب كما يعرف كل القراء ببساطة هو أننا فعلا لا نؤمن بالسلام، ونؤمن بالحروب إذا كانت لصالحنا، ولم يكن موضوع الأبرياء أمرا شاغلا لنا على الإطلاق سواء كانوا أبرياء نيويورك الذين قتلوا في 11 سبتمبر أو الأبرياء الذين يتساقطون في فلسطين أو العراق، ما يهمنا فعلا هو البعد السياسي العميق للصراع، وكأننا جميعا قد تحولنا لوزراء دفاع وأعضاء كونجرس.

إنني أدعو في هذا السياق لثلاثة أمور سهلة لا تحتاج للكثير من الجهد الإنساني “كجهود منظمة جسور إلى بغداد” وتتوافق بشكل مميز مع كسلنا كعرب:

  • الأول: أن نسعى لفهم هذه المجموعات وفهم الفكر الذي تقدمه والذي يقوم على دعم السلام المطلق، وعلى المشاركة في متندياتهم على الإنترنت لتحيتهم على الجهود الهائلة التي يبذلونها.
  • الثاني: أن نسعى لبناء علاقات مميزة على المستوى السياسي والإنساني والثقافي مع جماعات السلام حول العالم، لأن هؤلاء أكثر من يمكن أن يتبنى قضيتنا ويساعدنا في كبح جماح الغرب القوي.
  • الثالث: أن نفكر جديا في أعماقنا في ما جناه العنف والحروب على بلادنا وأمتنا، ونفكر في اليوم الذي نقرر فيه رفض كل هذه الحروب أينما كانت من أقصى آسيا لأقصى أمريكا اللاتينية، وكائنا من كان بطلها وضحيتها.

أخيرا اسمحوا لي أن أحيي الشيخ الجزائري عباسي مدني، الذي قرر الإضراب عن الطعام حتى الإفراج عن الإيطاليتين والصحفيين الفرنسيين، فهذا أقل ما يحفظ ماء وجهنا أمام جموع الأوروبيين والأمريكيين الذين ينتظرون منا ردة الفعل الإيجابية نحو “قضايانا”!!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية