تعرف أمريكا بأنها بلد “الفرق الشاذة” _ ترجمتي لكلمة cults _ وهي فرق تنتشر هناك بسبب اتساع أمريكا والحرية الواسعة للتعبير والفكر، وبعض هذه الفرق تؤمن بعبادة الشيطان Satanism، أو بالانتحار الجماعي، أو بقرب قدوم رجال الفضاء، أو بالإباحية المطلقة أو الانتحار، أو حتى بأكل لحوم البشر “فرقة في بوسطن”، وبعضها يؤمن بأفكار جميلة مع مبالغة حادة مثل الذين يؤمنون بمنع قطع الأشجار أو تقديس الأطفال.
هذه الفرق عددها كبير، وهذا الذي جعلها محط دراسة مكثفة في أمريكا، حتى أن هناك أقساما في بعض الجامعات متخصصة في دراسات هذه الفرق Cultic Studies.
الفيلم الذي شاهدناه منذ أيام على التلفزيون السعودي والذي قدم شهادات حية من أعضاء سابقين في جماعات الإرهاب في السعودية يوضح بلا شك تشابه استراتيجيات وآليات التكوين والاستمرار لدى هذه الجماعات الإرهابية مع الفرق الشاذة في أمريكا وأوروبا، وهو تشابه يفتح أعيننا على أهمية دراسة هذه الفرق والظروف التي تبدأ وتنمو فيها، وأهمية أن ننظر من جديد لأعمال الإرهاب التي تقترف باسم الإسلام ومدى ارتباطها بهذه الجماعات.
بعض أهم أوجه الشبه بين جماعات الإرهاب في العالم الإسلامي و”الفرق الشاذة” في الغرب ما يلي:
- الاعتماد على “غسيل الدماغ” الاجتماعي والنفسي لضم أعضاء جدد لهذه الفرق والحفاظ عليهم ضمن الفرقة، وغسيل الدماغ يشمل الضغط النفسي الهائل “تحت ظروف الملاحقة” واستخدام التخويف وتكرار الرسالة ودعمها بكل الشواهد الممكنة، وإيجاد تفسيرات لكون هذه الجماعات أقلية مرفوضة عادة ودعم هذه التفسيرات، والتلاعب النفسي وغيره.
هل يمكن “إعادة الوضع الصحيح للدماغ” بعد “غسيله”؟
دراسات كثيرة حاولت الإجابة على هذا السؤال حول مدى فعالية غسيل الدماغ بعد خروج الشخص من هذه الظروف القاسية، وكثير منها يجيب بـ”نعم”.
- العزلة والسرية، لأن العزلة تمنع من تواصل أعضاء الجماعات الشاذة مع أفراد المجتمعات مما يؤمن لهم عدم فتح أفكارهم للنقاش العام، وهذا طبعا يساعد في نمو هذه الأفكار وبقاءها.
أحد الاستراتيجيات التي اعتمدتها الفرق الباطنية في العصور الإسلامية الوسطى هي تحريم مناقشة المعتقدات لمن هم أقل من 40 عاما، ولذا يعيش أفراد هذه الفرق بعيدا عن معرفة دينهم حتى ييلغوا سنا معينة.
آخرون يعتمدون السرية للحفاظ على وجودهم ضد الملاحقة الأمنية، أو للحفاظ على شخصية القائد أو لأي سبب آخر، إلا أن هذه السرية تجعل هذه الجماعات دائما جماعات صغيرة العدد وغير قابلة للتأثير الجماهيري.
- “الشخصية الآسرة” التي تقود هذه الجماعات هي صفة مميزة لها، لأن وجود الشخصية المقنعة القوية يساهم في انقياد أعضاء هذه الجماعة لتصرفاتها التي تناقض الحس الاجتماعي العام.
لقد أكدت عدد من التقارير الإستراتيجية الدولية أن الجماعات الإسلامية التي تتبنى فكر العنف تشترك فيما بينها بوجود “الشخصية الآسرة” التي تقودها.
- اختلاط السياسة بالدين، فهذه الجماعات في الغالب لها اتجاه سياسي واتجاه ديني ممتزج مع أفكارها الأخرى.
فمثلا في أمريكا آمنت “الميليشيا” بأن الحكومة الفدرالية الأمريكية متآمرة لوضع أمريكا وجيشها تحت رحمة الأمم المتحدة أو “حكومة العالم السرية”، وخلطت هذه الرؤية برؤية مسيحية متطرفة، فقامت بتفجير مبنى الحكومة الفدرالية في أكلاهوما في عام 1995.
معظم الفرق الشاذة الغربية تتبنى اعتزال السياسة والإلحاد الديني، بينما في العالم الإسلامي تتبنى معظم هذه الجماعات فكرا دينيا متطرفا بسبب قوة التأثير الهائلة للدين على نفوس المسلمين، وتتبنى فكرا سياسيا نشطا بسبب الإحباط السياسي العام السائد في العالم العربي والإسلامي.
- البعد التجاري، فهناك دائما استفادة مادية تحصل لقادة الفرقة الشاذة والمنضمين إليها، وإذا كانت جماعة مثل “عباد الشيطان” في أمريكا قد استفادوا مثلا من بيع الملابس والأشياء التي تحمل رموزهم “والتي يمكن أن تراها في بلاد العالم الإسلامي وهي كلها علامات تجارية مسجلة”، وبيع أشرطة الأغاني الخاصة بمغنين الراب الشيطانيين، فإن الفرق الشاذة في العالم الإسلامي استفادت بشكل واسع من التبرعات التي جاءت من عموم الناس بالحافز الديني أو السياسي.
- العمر القصير، فمعظم هذه الجماعات لا تستمر طويلا، وإذا استمرت فإن أفكارها تتغير داخليا تبعا لأفكار القادة الجدد والأتباع الحاليين والظروف العامة ومصدر التمويل، ونجد هذا في حالة الفرق الشاذة في الغرب، وفي حالة الفرق الشاذة في التاريخ الإسلامي وفي العقود الماضية من القرن العشرين، وسيكون هذا حال الفرق الشاذة الإرهابية.
إن دراسات “الفرق الشاذة” تشير أن آليات التكوين والاستمرار لهذه الفرق تشمل التالي:
- التحكم في وقت عضو الفرقة، بحيث يكون شغله الشاغل على مدار اليوم أنشطة الفرقة الشاذة وأفكارها وحمايتها.
- الإحساس بالضعف، وأن الخروج من الفرقة يمثل المزيد من الضعف، وأن الظروف الخارجية تحتم البقاء داخل الفرقة لكسب القوة.
- النظام الهرمي الذي يعطي للقادة السلطة المطلقة، والذي يشبه النظام العسكري، ويحتم على الطبقات المتدنية في الهرم الطاعة العمياء، ويمنعهم من الشكوى أو النقد، معتبرا أن أي شكوى أو نقد يدل على ضعف انتماء العضو وولائه للفرقة أو إيمانه بأفكارها، وأن الأمر يتطلب من هذا العضو التركيز على نفسه بدلا من نقد الفكر أو القادة.
- التحكم الكامل في الثواب والعقاب لإلزام المجموعات بالسلوك الاجتماعي القديم، أو لفرض أفكار جديدة.
- ارتباط الفرقة برؤية متكاملة للعالم، وفرض نظام صارم للالتزام بالمنطق الذي وصلت إليه الفرقة وعدم الخروج عنه أو التفكير في أساليب منطقية أخرى.
إن مشاهدتنا لفيلم الأسبوع الماضي يؤكد وجود كل هذه الخصائص في جماعات الإرهاب في السعودية، ونحن نعرف هذا عن الجماعات الأخرى في العراق وغيره من دول العالم العربي والإسلامي، وهذا يعني أن الإسلام يعاني من وطأة استغلال “الفرق الشاذة” له، كما أننا نعاني من عدم فهمنا لهذا الأمر مما جعل البعض يظن أن الإرهاب هو فقط امتداد متطرف ومغالي للإحباط السياسي والالتزام الديني الأمر الذي خفف من موقفنا السلبي ضد هذه الجماعات أو جعلنا ننظر في الاتجاه الخطأ.
لقد آن الأوان لدراسة هذه الفرق، وآلياتها الاجتماعية، واتخاذ القرارات اللازمة لوضعها في الزوايا المهجورة المناسبة لها تاريخيا واجتماعيا ودينيا وفلسفيا، ولبناء الرؤية الاجتماعية العامة التي تقصر من عمر هذه الفرق وتمنع تكونها الانشطاري أفقيا وعموديا.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية