وقف الكثير من العرب مشدوهي الأفواه وهم يستمعون لحديث وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، في الكونجرس الأمريكي، عن “الإبادة الجماعية” التي مارسها “الجنجويد والقوات السودانية المسلحة” في دارفور.
فجأة تدافعت صور حرب العراق للأذهان، ولمعت فكرة استفادة الحكومة الأمريكية من حملة ضد السودان في أشهر الانتخابات الساخنة، وخاصة أن مثل هذه الحرب ستظهر وكأنها حرب “أخلاقية” لأنها تهدف للدفاع عن ضعفاء دارفور الذين انتهكت الميليشيا العربية أعراضهم وسلبت أرضهم.
إنها بالضبط كما سيصورها الأمريكيون في خطابهم السياسي خلال الأسابيع القادمة: “مسؤولية من حباه الله بالقوة للدفاع عن المحتاج”.
نفس القصة حصلت قبل أسبوع فقط عندما وجد السوريون واللبنانيون أنفسهم أمام قانون للأمم المتحدة وهجوم عالمي حتى من أقرب الحلفاء فرنسا، وكانت الحكاية “الدفاع عن السيادة اللبنانية”.
وقبلها طبعا قصة “أسلحة الدمار الشامل” في إيران التي ما زالت تتفاعل حتى الآن دون نجاح إيراني يذكر.
لكن أحدا لم يستغرب، ففكرة أن أمريكا ستنتقل من العراق إلى دولة أخرى، سوريا أو إيران أو السودان أو حتى جزر القمر كانت واردة تماما في أذهان العرب الذين بدؤوا يعتبرون هذا جزءا طبيعيا من حياتهم، ولذا فإن قصة دارفور تبدو وكأنها الصدمة التي تقف إزاءها صامتا عاجزا عن البكاء أو حتى الدموع.
وحدهم السودانيون الذين يتململون خوفا من هذا الذي داهمهم فجأة، وصار شارعهم يتخيل النتائج: مقاطعة اقتصادية، جيوش أجنبية، أو حتى هجوم على الخرطوم.
لكن الأغلب كما يتصور البعض أن قصة دارفور ستكون _ لا سمح الله _ تكرارا تلقائيا لقصة “تيمور الشرقية”، حديث مكثف عن الاضطهاد دون مبالاة بالأدلة وضغط سياسي واقتصادي عالمي مكثف ينتهي بانفصال دارفور وتكوين دولة مستقلة موالية لمن ساعدها على الاستقلال وتدخل في الحسابات الإقليمية بعد ذلك.
ما الذي حصل في دارفور؟ لماذا فشل السودانيون تماما في الوقوف أمام الرأي العام العالمي وفتحت ثغرة في جدارهم قد تؤدي لانهيار وحدتهم الوطنية ومصداقية الكيان؟
الجواب على هذا السؤال سيشرح لنا لماذا فشل اللبنانيون عن منع تدخل العالم في قراراتهم الداخلية رغم نظامها “الديمقراطي”؟ ولماذا يقف السوريون مكتوفي الأيدي أمام الصراخ العالمي ضدهم؟ لماذا يفشل العرب في كثير من الأحيان في فهم السياسة العالمية والتعامل معها ويخسرون في كل جولة؟
هذا يحصل لعدة عوامل رئيسية:
- الأول: التهاون السياسي وعدم أخذ بدايات الهجوم بجدية.
تبدأ الهجمات عادة بتقارير صحفية وتقارير لجمعيات حقوق الإنسان ثم تنتقل في التوقيت المناسب لتصبح حديث المجالس الدولية، ثم تصبح جزءا من جدول أعمال الأمم المتحدة والدول الكبرى.
قصة دارفور عمرها الآن أكثر من سنة منذ تصاعدت عالميا، وخلال تلك الفترة لم تحرك السودان ساكنا إلا بشكل محدود جدا، لم تعلن السودان صرخة طلب النجدة بل تركت ذلك للمنظمات الإغاثية التي أغاظها جدا عدم تعاون الحكومة السودانية معها، ولم تقف السودان بحزم وبجهود مكثفة أمام تلك التقارير، وحتى الآن وأجراس الإنذار تدق على باب الخرطوم، مازال الجهد الدبلوماسي والسياسي والإعلامي محدودا جدا، وكأن السودانيين يظنون أن العالم سيكون عادلا معهم وسيتفحص قضيتهم بعناية ويكتشف براءتهم من الاتهامات ثم يصدر إعلان العفو.
- الثاني: ضعف النظام الإعلامي الداخلي والخارجي، ومثل هذا النظام يبنى عبر سنوات من الجهد المكثف تبني خلالها قنوات اتصال عالمية تقف معك أثناء الأزمات.
ولعله لا يخفى على القارئ أن معظم دول العالم العربي تشارك السودان هذا الضعف، ولذا لم يستطع السوريون الدفاع عن أنفسهم الأسبوع الماضي، وكان هذا وضع العرب في عدة أزمات دولية سابقة.
لقد تحول العالم اليوم تحاسب الدول فيه على الصور الذهنية التي تتكون عنها، ولا يمكنك أبدا حماية نفسك من الصور السلبية وبناء الصور الإيجابية بدون أن يكون لديك نظام متماسك ذكي مكثف يعمل بدأب لا يتوقف.
- الثالث: عدم فهم “العولمة” ومتطلباتها، وعدم إدراك أننا قرية صغيرة يمر فيها الهمس من جانب القرية إلى جانبها “دون رحمة”.
الإعلام العالمي يشتاق لقصص الأزمات الإنسانية مثل قصة دارفور، وبمجرد أن يلتقط واحدة يصعب إلغاءها من الذاكرة الإنسانية، والإعلام دائما يعشق القصص الخفية للسياسة كقصة العلاقة بين سوريا ولبنان، وفي هاتين الحالتين وفي حالات أخرى نسي العرب ذلك، وسمحوا للشرارات أن تقدح هذا الاهتمام العالمي الذي صار يصعب مقاومته وصار مغريا الاستفادة منه سياسيا بالنسبة للدول الكبرى.
إن تجارب العرب في السودان والعراق وسوريا وتجارب إيران وأندونيسيا وتجارب عالمية مثل تجربة أمريكا اللاتينية لجديرة بالدراسة والتمحيص حتى نفهم كيف تحاصر السياسة فريستها وتضعها في مازق، وحتى نفهم كيف يمكن الخروج من المأزق.
نحتاج لفعل ذلك على صعيد السياسيين الذين لهم طرقهم في فهم ما يحصل وراء الكواليس، ونحتاج لفعل ذلك على صعيد الأجهزة الإعلامية التي يفترض أن تحمي بلادها ومصالحها الوطنية، ونحتاج لذلك فكريا وثقافيا حتى يتم بناء طرق يدافع بها الضعفاء عن أنفسهم.
علينا أن نعرف ما هي الشرارات التي تقدح الصور السلبية وتحولنا لفرائس سهلة يقتنع العالم بضرورة كبح جماحنا واستخدام النظام الدولي ضدنا.
إنني أحلم أن يتحرك السودانيون فجأة ويستنفروا كل طاقاتهم للوقوف أما التيار الجارف الذي يزحف نحو بلادهم، وأحلم ألا تتكرر قصص الفشل هذه والتي ندفع ثمنها كل مرة غاليا جدا، وأحلم بعالم نبيل يبحث عن الحقيقة بدلا من الظفر السياسي، وأحلم بعالم عربي يعترف بضعفه ويعمل ليل نهار على بناء نظام إعلامي ضخم يحميه.
أستمر في الحلم، وكلي أمل ألا أستيقظ من النوم!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية