عندما فشلت «التربية» ونجحت «السياحة»..!

من قسم منوعات
الخميس 14 أكتوبر 2004|

لعل من أحد أبرز نقاط الخلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي الأمريكيين التي لا يعطيها الكثير من المحللين الاهتمام الكافي هي كيفية إدارة المؤسسات الحكومية.

الجمهوريون من جهتهم يؤمنون بـ”الحكومة الصغيرة”، أي أقل عدد من الموظفين في المؤسسات الحكومية، وأقل عدد من البرامج، والاعتماد الكامل على تحفيز القطاع الخاص والقطاع غير الربحي لتقديم ما يحتاجه الناس بعيدا عن رعاية المؤسسات الحكومية، وهذا طبعا يقلل نفقات الحكومة ويقلل من حاجتها للضرائب.

الديمقراطيون من جهتهم يؤمنون بـ”البرامج الحكومية”، وذلك من خلال تأسيس برامج حكومية متنوعة للوصول للأهداف التي يرون أنها تدعم المجتمع وتحمي الطبقات الضعيفة، وهم لذلك يحتاجون نفقات عالية للحكومة ويزيد من حاجتهم للضرائب.

الديمقراطيون يتهمون الجمهوريين بتخليهم عن الناس من خلال ضعف البرامج الحكومية، وتقليل الضرائب خدمة للأغنياء، بينما الجمهوريون يتهمون الديمقراطيين بخلق “الحكومة الكبيرة” التي تثقلها المركزية والبيروقراطية.

لكن هذه الفروقات تأتي بعد أن حقق المجتمع الأمريكي إنجازات هائلة في مجال “تصغير” الأجهزة الحكومية من خلال التخصيص ودعم المؤسسات غير الربحية والقدرة على تحقيق أكبر عدد من الأهداف بأقل عدد من الموظفين.

هناك إنجاز هام في هذا المجال هو ما أريد التركيز عليه وهو البعد عن المركزية، وتوزيع المهام على الإدارات الموجودة في الولايات والمقاطعات والمدن الأمريكية.

ولو تجولت في العاصمة واشنطن لوجدت أنك تستطيع أن تقطعها من أقصاها إلى أقصاها مشيا على الأقدام، وهي تحوي كل الوزارات الأمريكية _ باستثناء وزارة الدفاع _ بالإضافة للبيت الأبيض.

هذه الوزارات تحكم أمريكا كلها من خلال نظام بعيد تماما عن المركزية، وهي التجربة العالمية التي أثبتت نجاحها وصارت أصلا كلاسيكيا في فن الإدارة العامة.

من جهة أخرى، لو تأملنا حال المؤسسات الحكومية في مختلف دول العالم العربي، لوجدت أنها تعاني من المركزية القاتلة التي تثقل الموظف الحكومي في الوزارات بالأعمال وتجعل الموظف في الإدارات التابعة لهذه الوزارة بلا عمل ولا أهمية وبدون قدرة على التطوير، وتضطر الوزارة لخلق نظام بيروقراطي يصب في نهايات محدودة تمثل الوزير ووكلائه والمدراء العامين الذين يتخذون وينفذون ويراقبون معظم القرارات الحكومية.

وإذا كانت الدول العربية قد لجأت للتخصيص الجزئي والكامل كحل لهذه المشكلات المتراكمة، فإن بعض الوزارات لا يمكن تخصيصها مثل وزارات التعليم والصحة وغيرها وقد يكون من الضروري في هذه الحال البحث عن حلول أخرى لدعم أنظمتها الإدارية، وواحد من أفضل هذه الحلول وأسهلها تنفيذا وأكثرها فعالية في نفس الوقت هو التقليل من المركزية وتوزيع الصلاحيات على الإدارات في المحافظات والمدن والقرى بما يقلل من المركزية والبيروقراطية وينمي روح التنافس ويحول المؤسسة الحكومية العملاقة لما يشبه فرق العمل، كل مختص بما يعنيه “على الأقل جغرافيا”.

لقد كانت تجربة المواسم السياحية في مختلف مناطق المملكة لهذا العام مثالا إيجابيا على ما يمكن أن يحققه البعد عن المركزية، حيث اهتمت إمارة كل منطقة بترتيب الفعاليات وإنتاج الأفكار وإدارة الأنشطة السياحية، وهو الذي ساهم في نجاحها مقارنة بالأعوام الماضية، وهذا الأمرلم يكن ليتحقق في رأيي لو كانت الأنشطة السياحية تدار من مكاتب محدودة العدد وبشكل مركزي.

هذه التجربة تأتي من توجه واضح وسياسة معلنة للهيئة العليا للسياحة بقيادة سمو الأمير سلطان بن سلمان، والذي يؤكد تماما بما يثير الإعجاب على دور الهيئة “غير المركزي” في تنمية التعاون بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والإدارات الحكومية المحلية.

وربما كان البعض ينتقد هذه التجربة على أساس أنها لا تعطي نتائج سريعة بسبب الحاجة لتوعية كل هذه الجهات وجعلها جزءا من الخطة السياحية العامة وكسب تعاونهم، وهو أمر يأخذ الكثير من الوقت مقارنة بالبرامج المركزية التي تكسب “البريق الإعلامي” وتفشل في النهاية بسبب بيروقراطيتها.

من جهة أخرى، نجد أن وزارة التربية والتعليم تعاني الكثير من المشكلات مقارنة بالجهود الضخمة التي تبذل فيها وسبب ذلك نظامها المركزي والذي يعظم دور الوزارة ويقلل من دور الإدارات في المناطق، مما يحول الوزارة لعنق زجاجة تزدحم عنده البرامج وتضيع معه الجهود وتتكسر على صخوره الهمم.

وأنا هنا ركزت على وزارة التربية والتعليم بالذات رغم أنها مشكلة تعاني منها معظم الوزارات الحكومية في العالم الثالث كله، لأن تجربة “الإدارة اللامركزية” لوزارات التعليم أصبحت أمرا عالميا تقليديا حيث تتخذ معظم القرارات داخل أسوار المدرسة، وبعض القرارات على مستوى مجلس أو إدارة تعليم المدينة، والقليل جدا من القرارات على مستوى الوزارة المعنية، أي تقريبا ما يشبه نظام التعليم العالي لدينا حيث تتمتع الجامعة بنسبة عالية من الصلاحيات.

لقد كانت المشكلة الكبيرة التي واجهت هذه التجربة خلال العقود الماضية في عدد من الدول المتقدمة أن بعض مدراء المدارس لم يكن مؤهلا للتمتع بهذه الاستقلالية، وقد وجدت عدة حلول منها المجالس المعينة أو المنتخبة التي تراقب أداء المدارس وتقيدها بتنفيذ السياسات وتطبيق القرارات، أو تدريب مدراء المدارس بشكل مكثف، وإعطاء الآباء دورا فعالا في مراقبة المدرسة ورفع مستواها، ولكن الحل لم يكن أبدا المركزية، لأنها أمر ثبت فشله بما لا يدع مجالا للشك.

حتى تستطيع أن تربي طفلا صغيرا يجب أن تمنحه الثقة وتسمح له بارتكاب الأخطاء حتى يتعلم من أخطائه ويصبح رجلا، فهل نفعل الأمر نفسه مع الإدارات الحكومية المتناثرة في مختلف المحافظات والمدن في أرجاء المملكة الواسعة؟

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية