لاشك أن الفيلم البدائي الذي سعى للإساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان حدثا فاصلا في تاريخ شبكة الإنترنت، لأن نشر فيلم مهما كان بدائيا وسخيفا على شبكة الإنترنت لم يعد مجرد فيلم ينشره الجمهور “كما كان موقع يوتيوب يعرف نفسه”، بل إن الواقع الآن يؤكد أن هذا النشر يعني أنه يتحول إلى جزء من الثقافة الإعلامية العالمية، ولا يختلف بأي حال من الأحوال عن أي مادة إعلامية تنشرها شبكة كبرى، إن لم يكن أكبر أثرا أحيانا!
لقد مررنا أسبوع نادر من نوعه، جاء بعد صدمة العالم الإسلامي بكيف يمكن أن يتحول الحقد على الإسلام لدى المجموعات المتطرفة إلى حافز لفعل أي شيء لتمثيل هذا الحقد، ولكن المحصلة النهائية في رأيي لأسبوع الغضب كانت عبارة عن خسائر متراكمة لجميع الجهات.
أول الخاسرين في رأيي كانت شركة “جوجل” والتي عجزت عن التصرف بمسؤولية نحو الحدث، لقد تحولت “جوجل” إلى مؤسسة إعلامية وإعلانية عملاقة، والمسؤولية الإعلامية صارت إطارا عالميا وتطويرا هاما لنظريات الحرية لا يمكن لأحد الآن التجاوز عنه.
في السابق كانت شركات التكنولوجيا تحاول لعب وضع الأرضية المحايدة التي لا تتدخل في المحتوى إلا عبر آليات تقنية ترصد ما يريده الجمهور، ولكن “جوجل” تراجعت عن هذه الأرضية المحايدة في حالات عديدة معظمها له علاقة باليهود وأمن أمريكا القومي ورغبات الصين، ولكنها عجزت عن فهم ضرورة أن تتدخل في هذه الحالة أيضا.
أعتقد أن “جوجل” لا تدرك أنها ستدفع ثمن هذا التصرف غاليا في المستقبل، فهي لم تمنح أعدائها من المؤسسات الرسمية التقليدية العذر لاتخاذ إجراءات نحوها فحسب، بل أيضا ستسمح لمشرعي الإعلام في العالم بما فيها أمريكا لوضع أطر تضغط على “جوجل” للإلتزام بمسؤولياتها الإعلامية والاجتماعية، وهو نقاش قد بدأ فعلا في أمريكا.
الخاسر الثاني في رأيي كان الربيع العربي، وذلك لأن ما حصل يؤثر بشكل حاد على فكرتين جوهريتين للربيع العربي.
الفكرة الأولى هو ذلك الحلم الذي بدا وكأن الربيع العربي هو انعتاق للشعوب من النظم التقليدية الديكتاتورية حيث ملايين الشباب العربي يبحث عن غد أفضل، وهي الفكرة التي تبددت مع صور هؤلاء الشباب أنفسهم في مصر واليمن وتونس وليبيا يدمرون ويصرخون بشكل بعيد عن النمط الحضاري والإنساني في الاحتجاج.
من جهة أخرى، كان الاحتجاج السلمي الصابر عبر المظاهرات في دول الربيع العربي شكلا حالما لشعب يبحث عن حريته، ولكن ما أثبته هذا الأسبوع أن هذه المظاهرات نفسها يمكنها دائما أن تستغل من قبل المتطرفين فيتحول احتجاج الغاضبين لأجل مقدساتهم إلى فرصة لمن يخرج من بين الجموع فيقتل ويحرق بما لا ترضاه الجموع وبما لا يتوافق مع المبادئ التي خرجوا من أهلها.
ربما كان هذا هو السبب الذي جعل الرئيس المصري يتباطأ في رد الفعل، وهو أحد الخاسرين هذا الأسبوع أيضا، وذلك لأن الأمر بدأ بمظاهرة “أحد رموز الربيع المصري”، ولكن المظاهرة انتهت بمفاجأة علم القاعدة يرفرف على السفارة الأمريكية، وهو أمر في رأيي لم يتوقعه أحد.
خاسر آخر هذا الأسبوع أيضا هو الثورة السورية، فقد مات خلال هذا الأسبوع أكثر من 500 سوري دون أن يلتفت لهم المسلمون المشغولون بالفيلم التافه.
لقد فجع السوريون لأنهم رأوا الشعوب تتحرك بغضب ضد أمريكا التي تم فيها تصوير الفيلم، ولكن الشعوب لم تحرك قيد أنملة ضد روسيا أو إيران التي كانت تدعم قتلهم خلال تلك الفترة الماضية، وربما كان هذا ما شجع الإيرانيين على الاعتراف بعد الحادثة بخمسة أيام بوجودهم الفعلي العسكري في سوريا، دون أن يلقى ذلك أي احتجاج ولو رمزي ضد سفاراتهم!
لقد خسر المسلمون في أمريكا وأوروبا أيضا، وذلك لأن جهودهم ليل نهار لتحسين سمعة المسلمين والعرب يمكن تقويضها بفيلم لا يساوي شيئا، تخيل الإحباط الذي يمكن أن يعم نشطاء العرب في الغرب بعد الحملة الإعلامية الغربية الشرسة ردا على مقتل السفير الأمريكي في ليبيا.
الأقباط في مصر أيضا خسروا خسارة كبيرة، لأنهم جلسوا لعقود من الزمن يتفرجون على متطرفيهم في أمريكا وهم يعبثون بكراهيتهم ضد مصر والعرب والمسلمين دون أن يفعلوا شيئا وذلك لأن أقباط المهجر كانوا دائما مصدر تبرعات مالية للكنسية. هذا أمر يجب أن يتذكر الأقباط أن استمراره سيدمر مكتسباتهم عبر السنين.
إنني أطالب وقد لا يسمع صوتي أحدا بجهود منظمة تضع برنامجا طويل المدى بحيث يعترف العالم بأن التشويه ضد رسول أمة المليار مسلم هو محض “كراهية” وليس حرية رأي، تماما كما فعل اليهود مع الهولوكست، وهي جهود يفترض على سفراء العرب والمسلمين دعمها لتجنب كارثة مثل هذه في القرية العالمية حيث يسقط مسمار في كاليفورنيا فتسمع صداه كل مدن العالم.
الرابحون من الحكاية كلها هم المتطرفون، متطرفوا الأقباط، ومتطرفوا العرب، ونحن منحناهم هذا النصر على طبق من ذهب، بكل أسف …!