جاء إعلان “جوجل” عن نتائج الربع الثالث لهذا العام تتويجا لقصة إنجاز عظيمة بكل المقاييس، حيث استطاعت شركة تكنولوجية خلال 13 عاما أن تسيطر، ليس فقط على قطاع معين، بل ولتصبح جزء رئيسيا من حياة الناس اليومية في مختلف أنحاء العالم.
خلال الربع الثالث، حققت “جوجل” أرباحا وصلت إلى 9,7 مليار دولار في نمو مميز عن أرباح الربع الثالث من عام 2010 حيث وصلت إلى 7,2 مليار دولار، إلا أن المذهل في هذا الإعلان هو أن 7,5 مليار دولار من أرباحها الصافية يأتي من الإعلان، وهذا يجعلها واحد من أكبر شركات العالم التي تعتمد على الإعلان كمصدر دخل رئيسي متفوقة بذلك على معظم الشبكات الإعلامية في العالم.
هذه الرؤية الخلاقة من القائمين على “جوجل” والذين كسروا واخترقوا كل كلاسيكيات سوق الإعلان المعقدة، تتبعها الآن رؤية أخرى تركز على الموبايل، وبخلاف البحث من خلال جهاز الكمبيوتر حيث تحاول “ميكروسوفت” منافسة “جوجل”، فإن “جوجل” تسيطر حاليا على 100% من البحث عبر الموبايل، كما أنها مع إطلاق أجهزة أندرويد وشراءها لشركة Motorola وإعلانها الأخير عن تأسيس متجر لشراء التطبيقات والمحتوى لمنافسة Apple iTunes، فإن الشركة ما يزال لديها الكثير جدا من الإنجازات لتحقيقه.
لكن الحديث عن أرباح “جوجل” ونموها السريع يتوافق معه حديث آخر لأولئك الذين يرصدون الآثار السلبية لاعتماد الجمهور على “جوجل” في البحث وإيجاد المعلومات.
في السابق، كان العقل الإنساني يبني قدراته على أساس مسيرة طويلة من القراءة والبحث والتأمل والتعمق في بناء أهرام المعلومات وسلاسلها في الذهن، وبذلك استطاع هذا العقل أن يبني الحضارة التي نعيشها، ويطلق ثورات الإبداع، ويعيش مختلف مستويات العمق للظواهر الإنسانية.
ما فعلته “جوجل” أنها وفرت طريقا سهلا جدا للإنسان – ويزداد سهولة مع انتشار البحث على “جوجل” عبر الموبايل – ليعرف كل معلومة على حدة متى ما أراد وبسرعة هائلة تزداد يوما بعد يوم.
لكن العلماء الأمريكيون والأوروبيون يرصدون بشكل واسع عبر دراساتهم تغيرا سريعا لقدرة الأجيال الجديدة وحتى الأجيال “الناضجة” على بناء المعلومات في أذهانهم وعلى قدرتهم على بناء أهرام المعلومات في أذهانهم، فكتابة بحث اليوم تعني فقط الذهاب إلى “جوجل” وتجميع شتات المعلومات دون الحاجة لساعات القراءة والاطلاع والتفكير.
كل المعرفة الإنسانية تتوافر للناس عند ضغطة زر، مماي غير تماما ديناميكية التفكير والتواصل العلمي لدى البشرية.
يقول البعض بأن هذه الدراسات هي فقط خائفة من التغيير، وإن الإنسانية سيكون لديها الوقت للاستفادة من المعلومات بدلا من تعلمها، ولكن الدراسات في الحقيقة توضح بلا ما لا يدعو للشك أن قدرات الإنسان الذهنية تضعف، والقدرة على التركيز تقصر بسرعة، وأن الاستفادة من المعلومات بشكل عميق يصبح أصعب لمن لا يدرب “عضلات” عقله على التفكير بسبب “جوجل”.
في عام 2008، نشرت مجلة “أتلانتيك مونثلي” الأمريكية العريقة غلافا للباحث الأمريكي الشهير نيكولاس كار بعنوان “هل تجعلنا جوجل أغبياء ؟”، والذي حاولت من خلاله أن يجمع الدراسات التي توضح هذا الأثر لطريقة البحث والوصول للمعلومات الحالية، والتي من أهم آثارها في رأيه ضعف التركيز لدى الجمهور حيث صار الوصول للمعلومات سريعا، وطريقة استعراض المعلومات سريعا أيضا، وصار العقل البشري أضعف قدرة على التعامل العميق والتركيز، بعدها توالت عددا من الدراسات والمؤتمرات التي ركزت على الموضوع نفسه بطريقة أو بأخرى.
بيتر نورفينج، مدير عام الأبحاث لدى “جوجل”، حاول الرد على نيكولاس كار، مؤكدا أن القدرة على التركيز والقدرة على مسح المعلومات بشكل سريع يمكن أن يتواجدا في نفس الوقت في العقل الإنساني، وأنهم عندما يزيلوا جهد البحث عن المعلومة عن الذهن الإنساني فإنهم بذلك يعطوه الفرصة للإبداع بشكل أكبر وأفضل.
في رأيي الشخصي ومن متابعة هذه الدراسات، لا يوجد حل يوقف المد الجارف لتكنولوجيا البحث عن المعلومات في حياتنا، ولكن الحل قد يكمن في تطوير المؤسسة التعليمية بحيث تكون تلك الفترة هي الفترة الأساسية لتنمية قدرات التركيز والبناء الذهني للمعلومات والأفكار وقدرات الإبداع لدى الإنسان، ثم إيجاد برامج وطنية مكثفة تكفل للإنسان أن يبقى قريبا من المؤسسة التعليمية طوال سنوات حياته، ليتحقق الأثر الشهير “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”، وهو ليس بحديث حسب تخريج أهل الحديث كما أفادني به “جوجل”.
تغير التكنولوجيا حياتنا بأسرع بكثير من قدرات المؤسسات التعليمية والثقافية على مواكبة هذه التغيرات، ولكن بعد 13 سنة من التفوق “الجوجلي” آن الأوان لبدء برنامج علمي في بلادنا يبحث عن الآثار والحلول، ولعل وعسى.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية