يصدر هذا الشهر كتاب من تأليفي عن إدارة الإبداع في المؤسسات الإعلامية، وهو عبارة عن دراسة على النظم والأساليب المتبعة في مختلف المؤسسات الإعلامية السعودية ومدى أثرها على تشجيع الإبداع أو تثبيطه، وذلك بهدف تطبيق نتائج دراسات علمية سابقة كنت أحاول من خلالها معرفة التركيبة النموذجية لمؤسسة عامة أو خاصة تريد الوصول بمستوى الإبداع لدى موظفيها إلى أعلى حد ممكن.
ولأن الكتاب سيصدر باللغة الإنجليزية ولن يوزع في العالم العربي أحب أن أنقل للقارئ نتيجة جوهرية حول هذا الموضوع وخاصة أنها تنطبق على مختلف أنواع المؤسسات، الإعلامية منها وغير الإعلامية، وخاصة كذلك أن موضوع الإبداع لم يعد موضوعا هامشيا مع إدراك الكثير من المدراء والمرؤوسين أن الفكرة الجديدة هي الفاصل بين النجاح والفشل على مستوى المؤسسات أو على مستوى الأفراد، وأن المؤسسة التي تتطاير فيها الأفكار الجديدة والناضجة تصبح بيئتها جذابة وحيوية في مقابل المؤسسة التي تلتزم بروتين قديم وتعيش على التقليد ومحاولة اللحاق بركب الشركات الأخرى.
الإبداع يحتاج في الأصل لكثير من الحرية والتي تمكن الموظف أن يرتب وقته وظروف عمله بحيث تتوافق مع مزاجه الإبداعي. ولكن هذه الحرية يصعب تطبيقها في كثير من الأحيان بسبب كثرة الموظفين الذين لا يتحملون مسؤولية المساحة الحرة التي تعطى لهم، ولأن كثيرا من الناس بمن فيهم الجادين والذين يمتلكون الإبداع المميز يصيبهم الكسل والتراخي الذي يقتل إبداعهم عبر الزمن _ كنا تثبت الدراسات العلمية.
الحل هو دائما منح الموظف أكبر مساحة ممكنة من الحرية بما لا يؤثر على ظروف العمل، وتلبية طلبات الموظف قدر الإمكان بما في ذلك ساعات الدوام غير الاعتيادية، وإيجاد البيئة المرحة والمرنة والمريحة، ولكن في نفس الوقت يجب أن يرافق هذا نسبة جيدة من التحدي والضغط، بحيث توجد أهداف واضحة ينبغي تحقيقها ومواعيد متفق عليها مسبقا لتحقيق هذه الأهداف بحيث تمثل هذه الأهداف والمواعيد Deadlines عوامل ضغط يحتاجها كثير من الناس ليتصاعد مستوى الإبداع لديهم.
هناك حرية أخرى هامة أيضا في هذا السياق وهي حرية التفكير دون الخوف من العواقب، فكثير من المؤسسات توجد فيها بيئة يحذر فيها الإنسان من قول فكرة جديدة خوفا من اللوم والنقد والاستهزاء أو الحكم السلبي عليه، وتغيير هذه البيئة ليس بالشيء السهل، لأنها تتطلب إيجاد جو إيجابي يقول ببساطة أن الفكرة الجديدة مقدرة ومحترمة ويكافأ عليها الموظف مهما كانت فكرة غير عملية وغير قابلة للتطبيق وغير مقبولة لدى الآخرين.
هناك أيضا “حرية المخاطرة” حيث ينبغي أن يكون هناك شعور عام بأن “تجريب” فكرة جديدة وفشلها ليس بالأمر السيء لأنه لا يمكن في الحقيقة من ناحية إحصائية الانطلاق بأفكار جديدة ناجحة بدون تجريب مجموعة من الأفكار الفاشلة.
كنت أقول هذه النتيجة مرة في أمام مجموعة من رجال الأعمال ورد علي مدير عام واحد من أكبر البنوك السعودية بأن كلامي هذا غير عملي لأنه حتى لو تسامحت المؤسسة مع التجربة الفاشلة فإن المجتمع لا يتسامح معها وتصبح هذه التجربة وصمة عار في جبين المؤسسة أمام عملائها وشركائها.
هذا يعني أن هناك تغييرا مطلوبا على مستوى المجتمع عموما بحيث يقدر أفراد المجتمع التجربة لكونها جديدة مع تقبل فشلها أو نجاحها، وهذا ممكن لو وجدت الجهود التوعوية التي تثبت للناس أن المجتمع الذي يعشق الإبداع بحد ذاته هي نفسها المجتمعات التي تتربع على قمة التفوق الاقتصادي والصناعي عالميا.
إذا كنت إداريا أو موظفا اسأل نفسك دائما ما هو نوع الفكرة الجديدة التي ستحقق لي النجاح، هل أحتاج منتجا جديدا، طريقة جديدة في التسويق، حلا لمشكلة تضعف المؤسسة أمام المنافسين، حلا لمشكلة داخلية تعاني منها المؤسسة، ثم تحدى نفسك وزملائك، وابذل كل غال ورخيص لإيجاد الإحساس العام بقيمة هذه الفكرة وأهمية معالجة التحدي وأن من سيحل المشكلة ويقدم الفكرة الجديدة سيلقى التشجيع والمكافأة التي قد تفوق المكافأة التي تعطى لأؤلئك الذين يعملون بجد ولكن ضمن الروتين فقط.
في الثمانينات الميلادية بدأت شركة “كوداك” برنامجا جديدا من نوعه حيث صارت تعطي الموظف نسبة 2% من أرباحها التي تزداد نتيجة تطبيق أي فكرة جديدة، وعينت فريقا للنظر في الأفكار الجديدة، وكانت النتيجة انطلاقة غير مسبوقة لـ”كوداك”، وظهور تقليد جديد لتشجيع الإبداع في عدد كبير من شركات العالم.
حتى ينطلق الفكر يحتاج لمساحة انطلاق، ونحن نعاني من كثير من القيود الروتينية والإدارية بكل أسف. ترى من لديه الفكرة الجديدة لعلاج هذه المشكلة؟
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية