إذا رأيت شابا متوقدا يحمل فكرته وطموحه على عاتقه، ويعمل بكل جد لتحويل تلك الفكرة إلى عمل تجاري ناجح، رغم محدودية الإمكانيات والمخاطرة ضد “هوامير” السوق، فأعرف أنك ترى شابا “رياديا”.
ولأن هذا النوع من الشباب كما وضحت في مقال سابق، هم الذين يحدثون التأثير العميق في الاقتصاد الوطني، فإن المجتمع الذين يستطيع أن يحتفل بهم ويعزز مكانتهم هو “مجتمع ريادي”، وهو مجتمع يطمح لتحقيق الاقتصاد المعرفي، ولخلق الوظائف، وقتل البطالة، وتنويع الاقتصاد، وتطوير أطر القطاع الخاص، أي باختصار هو مجتمع “طموح” للنمو.
ما زالت كل الدول العربية في بداية الطريق لتحقيق مثل هذا المجتمع، مقارنة بالمجتمعات الغربية، وهناك قصص فشل أكثر من قصص النجاح.
تحدثت حول هذا الموضوع مع أ.د. أحمد الشميمري، رئيس جمعية ريادة الأعمال والأستاذ بجامعة الملك سعود وصاحب عدة مؤلفات عن الريادة باللغتين العربية والإنجليزية وصاحب مسيرة أكاديمية وعملية طويلة في مجال ريادة الأعمال.
الدكتور أحمد، كان قد كتب كتابا بالإنجليزية بالإشتراك مع بروفسور إيطالي بعنوان “entrepreneurialism” أي “الريادية”، والذي يقوم على أن “الريادية” هي مذهب اقتصادي جديد (تماما مثل الاشتراكية والرأسمالية)، لأنها بخلاف الرأسمالية التي تركز على قوة رأس المال، فإن “الريادية” تركز على قوة الموارد البشرية بكل ما لديها من إبداع وطاقة، ولأن الريادية تركز أيضا على ثورة المعلومات كثروة مستقبلية يتمحور حولها النمو الاقتصادي والجهد البشري للوصول إلى المجتمع المعرفي الذي لا يقل عدد المبدعين فيه عن 2,5% من مجموع السكان.
سألت د. الشميمري، عن الوصفة السحرية التي يمكنها أن تخلق “مجتمعا رياديا”، وكيفية تطبيق هذه الوصفة على المجتمع السعودي، أو باختصار ما هي التغييرات الجوهرية التي يحتاجها مجتمعنا لتحقيق الطموح في هذا المجال، وفيما يلي من المقال تلخيص لإجابته على هذا السؤال.
هناك خمس مكونات رئيسية لـ”وصفة” المجتمع الريادي، وأولها التعليم والتأهيل، وذلك لأن “المجتمع المعرفي يتطلب اقتصادا معرفيا، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بريادة الأعمال، وهذا يعتمد على الابتكار، ولا يمكن تحقيق الابتكار إلا بالتعليم والتأهيل”.
التعليم هو مربط الفرس في خلق مجتمع ريادي، من خلال بناء جيل لديه من جهة القدرات الإبداعية والتفكير النقدي وعشق الابتكار، ومن جهة أخرى كل المهارات الأساسية لصناعة عمل تجاري ناجح. تخيل فقط لو مدارسنا اهتمت بتخريج هذا النوع من الشباب بدلا من حشو العقول بالمعلومات التي ينتهي أمدها خلال أشهر، هل كان سيكون لدينا بطالة أو عجز في المهارات؟
هناك أيضا التدريب والتأهيل المستمر لرجل الأعمال الريادي، وهذا أيضا محدود جدا في مجتمعنا حتى الآن، ويعتبر سببا أساسيا في محدودية قصص النجاح.
الأمر الثاني هو البنية التحتية، فالمجتمع الذي يريد خلق تكاثر سريع من المشاريع الريادية، لابد أن يركز على الأفكار الجديدة، والتي تحمل في طياتها تطوير الاقتصاد وتنويعه، وهذه المشاريع في يومنا هذا تحتاج لأنظمة توصيل فعالة للمنازل، وأنظمة دفع متطورة، وحرية في تطوير التعاملات المالية، ومرونة واسعة في الأنظمة الحكومية، كما يحتاج هؤلاء الشباب لحاضنات الأعمال (التي سأتكلم عنها الأسبوع القادم)، وحدائق العلوم وغيرها.
المملكة ما زالت – حسب رأي د. أحمد – في بداية الطريق، فأول مركز لريادة الأعمال افتتح في 2008، ويوجد حاليا أربع مراكز فقط، وأول حاضنة أعمال بدأت فقط قبل 4 سنوات (حاضنة بادر)، بينما هناك تسعة أنواع من حاضنات الأعمال، وأكثرها مفقود، والحاجة إليه ماسة.
الأمر الثالث هو الدعم من القطاع العام والخاص، القطاع العام يرعى لأنها مسؤوليته الجوهرية، والقطاع الخاص عليه أن يرعى حتى لا يتحجز في القوالب الكلاسيكية القديمة، سواء كان هذا الدعم عن طريق الاستثمار في المشاريع الجديدة أو ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية، والبنوك بشكل خاص لديها مسؤولية دعم المؤسسات الصغيرة بالتمويل. هذا طبعا بالإضافة للمؤسسات غير الربحية.
هناك تسارع محمود في دعم القطاعات للريادة في السنوات الأربع الأخيرة، ولكنه يأتي متأخرا جدا مقارنة بما حققته دول العالم الأخرى، ولذا فهذا التسارع لا بد أن يزيد أضعافا مضاعفة، والبنوك بشكل خاص مازالت مقصرة بشكل كبير، حيث ما زالت البنوك تستثمر بنسبة 2% فقط في المؤسسات الصغيرة، بينما يصل المعدل العالمي لدعم المؤسسات الصغيرة إلى 20 إلى 25%.
الأمر الرابع، تطوير قطاع “الاتصالات وتقنية المعلومات” (ITC)، لأنه القطاع الذي تعتمد على نجاحه كل نمو الاقتصاد المعرفي، فهو الأرضية التي ينطلق منها الجميع، ورغم أن تطور شبكة الإنترنت في المملكة يعتبر مميزا ويستحق الفخر به، إلا أن شركات الاتصالات الثلاثة ما زالت توصد أبوابها للرياديين الذين يحتاجون لها من الناحية التقنية لإنجاز مشاريعهم، وهي تتفاعل بشكل محدود جدا، وهو أمر مستغرب بالنظر لأرباح هذه الشركات واحتياجها لهذه المشاريع في عملياتها التنافسية.
آخر مكونات خلطة المجتمع الريادي هي التشريعات والإجراءات المنظمة، وهذه ما زالت مفقودة سعوديا نظرا لعدم وجود مظلة رسمية لريادة الأعمال حتى الآن، فلا يوجد تنظيم للعمل من المنزل، ولا تنظيم للدوام الجزئي، والتسهيلات المقدمة للمنشآت الصغيرة والمشاريع الريادية ما زالت ضئيلة جدا مقارنة بكثير من دول العالم الأخرى.
بدون هذه الوصفة الخماسية لن يمكن تطوير ريادة الأعمال، وهي تبدو سهلة، ولكنها تحتاج تضافرا للجهود من الجميع نحو هذا الهدف الذي أجمع العالم على قيمته الاقتصادية والاجتماعية شديدة الأهمية.
من جمال الحياة أن نحلم، وأحيانا نعمل لتحقيق الأحلام، ولكن بدون “مجتمع ريادي” سيقف آلاف الشباب والمبدعين عاجزين مكتوفي الأيدي، أو سيتحولون لمشاريع “فشل”، وهذا أمر لا يرضاه أحد..!
* نشر المقال في جريدة الوطن السعودية