من الطبيعي جدا أن يهتم الناس بأعداد المتابعين على “تويتر”، ليس فقط لأنها طبيعة بشرية، ولكن لأن هذه الأعداد تعني اتساع حجم التأثير للأشخاص.
عندما يتسع دور الشبكات الاجتماعية وعلى رأسها “تويتر” و”فيس بوك” في حياتنا اليومية وحراكنا الاجتماعي والسياسي والثقافي، فإن هؤلاء الأشخاص يصبحون تماما كـ”هوامير السوق المالية”، يلعبون في قوى العرض والطلب كما يرغبون، وإن كان التأثير هنا في الأفكار والرأي العام وليس في الأسهم والمال.
لكن هل كل من يملك الأرقام لديه التأثير حقيقة ؟
الجواب طبعا لا، ولذلك حاولت كثير من المبادرات الغربية إيجاد معادلة كمية يمكن من خلالها قياس التأثير، مثل موقع Klout، وهناك مواقع عربية استفادت من هذا التطور أيضا وقدمت جهدها في هذا المجال مثل tweepar.com و taether.com، ومعروف أن هذه المواقع تلقى اهتمام الناس ووسائل الإعلام.
لقد تحول قياس التأثير إلى صناعة تنمو تدريجيا بسبب إدارات التسويق في الشركات التي تحاول معرفة تأثيرها على الشبكات الاجتماعية، وبسبب المؤسسات الأمنية والرقابية حول العالم التي تحاول فهم ما يدور ضمن الشبكات الاجتماعية والتعامل معه، إلا أن كل أنظمة قياس التأثير ما زالت تعتمد على معادلات متنوعة جدا، وليس هناك أي دليل على أن معادلة معينة صحيحة مقارنة بمعادلة أخرى، وهي كلها تعتمد على حساب كمي لعدد الأتباع، وأتباع الأتباع، والريتويت، وإعادة النشر، وغير ذلك.
لكن الطريف أن هذا القياس نفسه تؤثر على الأرقام أيضا، فكما كان “هوامير السوق” يخبروننا أن هناك طلب على سهم معين، فنقبل جميعا على شرائه فيرتفع سعره، يحصل هذا في الشبكات الاجتماعية، حيث ينتابنا الفضول لمتابعة أولئك الذين يرتفع معدل تأثيرهم فنزيد من ارتفاعه بغض النظر عما يقولونه ومدى صلاحيته للقراءة أو شغل الوقت به.
الطريف في هذه المقارنة أيضا، أنه قد نشأ لدى المعنيين بالتسويق عبر الشبكات الاجتماعية فن مختص بزيادة درجة التأثير من خلال فهم كيفية قياسه، ولذا عندما يكتشف شخص ما أن زيادة عدد التغريدات في يوم معين مثلا مع التركيز على الهاشتاقات الشائعة يعني زيادة تأثيره فهو سيفعل ذلك، وهذا سيخلق الوهم بأن تأثير الشخص أو العلامة التجارية قد زاد فعلا بينما في الحقيقة كل ما في المسألة أنه أدرك الآلية الداخلية لحساب التاثير وتأقلم معها أو تلاعب بها حتى يحقق أرقاما أفضل.
الأمر نفسه يحصل في الأسواق المالية، فخبراء السوق يتعلمون عبر الزمن ماهي الأفعال التي يمكنها رفع سعر السهم حتى لو لم يكن يعني هذا زيادة حقيقية في قيمة الشركة الاقتصادية عموما.
إن الهوس بالأرقام والتأثير يعني أننا فقدنا المعنى الحقيقي للشبكات الاجتماعية، ونسينا ماذا يعني التأثير في الرأي العام، وصرنا نجري وراء شكليات ظاهرية، ونسمح لأشخاص عاديين فكرا وقدرة وإنجازا أن يظهروا وكأنهم قادة الرأي في المجتمع، بينما يتضاءل حجم من يعمل ومن يبذل ويفكر ويبحث لأن رقمه على “تويتر” أقل من غيره.
هذا ينطبق على العلامات التجارية حين يظن بعض مدراء التسويق أن الأرقام التي يحققها على تويتر تمثل القيمة الحقيقة للشركة، وينسى أن الخدمة والمنتج هي ما يحددها فعلا عبر الزمن.
لدي شواهد كثيرة بأن هناك انهيار سريع قادم؛ تماما كما اكتشفنا أن “الهوامير” قد خلقوا صورة مضخمة خرافية لسوق الأسهم، لينهار بعدها وينهار معها الكثير اقتصاديا، فإننا مقبلون أيضا على اكتشاف بأن من كثيرا ممن نراهم مؤثرين في الرأي العام ويقودوننا عبر الشبكات الاجتماعية ما هم إلا فقاعات ستنفجر فجأة لنعيش بعدها الكثير من الإحباط وجلد الذات والكره للحوار الاجتماعي، وذلك لأننا نعيش وهما كبيرا جدا سينجلي لنا يوما.
أرجو ألا يفهم أحدا أنني ضد أنظمة قياس التأثير، بل أنا أؤيدها تماما، وأتمنى المزيد من الاسثتمار فيها، فالشبكات الاجتماعية جاءت إلى حياتنا لتبقى، وتطوير هذه الأنظمة يساعدنا على معرفة ما يحصل، ولكنني ضد الهوس الاجتماعي بالأرقام، وضد الوهم الذي نخلقه حول الشركات أو الأشخاص الذين فهموا أصول اللعبة وخصصوا جزءا كبيرا من وقتهم ومالهم لها بدلا من الانشغال بأمور أخرى أكثر نفعا.
بالأمس أطلعت على دراسة لباحث أمريكي يقول بأن هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون رفع معدلات التأثير لديهم – والتي تسمى بـInfluence Engine Optimization – هم نفسهم يتورطون في ممارسات على الشبكة الاجتماعية “مثل الإسهاب في الكم بعيدا عن الكيف” تضعف من تأثيرهم الحقيقي، تماما مثل الكاتب الذي يكتب عشرة مقالات كل يوم، كلها ضعيفة، ولكنه يتفوق في الكم على كاتب يكتب مقالا مميزا كل أسبوع.
لدي المزيد حول هذا الموضوع وكيف ينبغي فعلا أن نقيس تأثير الأشخاص والشركات في الشبكات الاجتماعية ولكنني أتركه لمقال قادم.
العرب قالوا قديما: “إني أرى جعجعة ولا أرى طحنا”.. الغريب أننا مهتمون جدا بقياس الجعجعة دون أن نبحث عن الطحين !