لعل أهم عامل في فهم النظم الإعلامية بشكل عام هو “الجمهور” أو المتلقي، علاقة وسائل الإعلام والجهات المؤثرة وصناع القرار بالجمهور تحدد بالضبط شكل النظام الإعلامي في أي دولة وفي أي فترة زمنية.
في السابق، كان الإعلام يستمتع بأسواره العالية مع الجمهور؛ الجمهور بالنسبة له هو متلقي فقط، وكانت هناك نظريات مثل “نظرية الرصاصة” والتي تدعي بأن الرسالة الإعلامية تصل إلى الجمهور وتؤثر فيه بشكل عميق ومع مقاومة محدودة جدا من الجمهور.
لاحقا، ومع المنافسة الإعلامية بدأت وسائل الإعلام ترحب برسائل القراء لتنشر منها ما تريد، ثم جاء عهد “التفاعلية”، حيث صارت وسائل الإعلام ترحب باتصالات الجمهور على الهواء، ثم فرضت الشبكات الاجتماعية مستوى أعلى من التفاعل (Engagement)، حيث صارت وسائل الإعلام تبحث عن كل وسيلة للتفاعل مع الجمهور والوصول إليهم تحت ضغط المنافسة مع وسائل الإعلام الرقمي.
في السنتين الأخيرتين، ساهم “تويتر” والشبكات الاجتماعية في وضع وسائل الإعلام والمؤسسات المؤثرة صانعة القرار تحت ضغط أكبر، وخاصة في ظل قدرة هذه الشبكات على تجييش الجمهور في اتجاه معين، يتراكم بسرعة خرافية، لتتحول إلى كرة ثلج من آراء الجمهور التي تتجمع على هاشتاق يحرج الجميع ولا يمكن مقاومة تأثيره ولا التحكم فيه.
كانت وسائل الإعلام لعهود طويلة تحدد ما يسمعه ومايراه الجمهور، وكان من يتحكم في وسائل الإعلام، صانع قرار أو معلن أو مستثمر أو غيره، يتحكم في الرسالة، وتحولنا سريعا في أقل من عقد من الزمن لواقع يخاف فيه الجميع من الجمهور وحركته التلقائية السريعة والعشوائية والضاربة في أعماق المجتمع بلا هوادة ولا خوف من أحد.
كنت سابقا قد توقعت في دراسة نشرتها أن “الجهات المؤثرة” ستجد الحل، وأنه ستصحو من الموقف ليمكنها التحكم فيه، وهذا ما حصل فعلا وبنجاح يحسدون عليه، والقاعدة باختصار هنا هي القاعدة السياسية القديمة جدا: “فرق تسد”.
بكلمات أخرى: في زمن الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية والموبايل، لا يمكنك أن تمنع “الجمهور” من أن يقول ما يريد قوله، ولا يمكنك أن تجبره على أن يقول شيئا معينا، ولكن يمكنك أن تطلب من مجموعة من الجمهور أن يقولوا شيئا مضادا، ويكررونه بشكل ذكي بحيث يقع المتلقي في حيص بيص، فلا يعرف من يصدق، ومن يتبع، وتصيبه حالة من الشك يفقد فيها الجمهور مصداقيته، ويضطر بعدها للعودة لوسائل الإعلام الكلاسيكية ليسمع منها.
فمثلا، شركات السيارات كانت تستمتع بوضع مميز في كل مكان من العالم لأنها من أكبر القطاعات المعلنة، ولا أحد من وسائل الإعلام يرغب في إغضابها، ولذا يكون النقد الموجه إليها ناعما وحذرا.
نعوم تشومسكي، المفكر والناقد الأمريكي الشهير، عبر قبل عقدين من الزمن عن ألمه من هذه الحصانة التي تملكها شركات السيارات في التعامل مع الصحف الأمريكية.
هذه الحصانة صارت من الماضي، وكانت أول صدمة حصلت لشركات السيارات لما واجهت أحد تلك الشركات هجمة ضخمة قبل عامين من الجمهور الأمريكي، اضطرت بسببها لسحب سياراتها من الأسواق وتكبد خسائر ضخمة.
شركات السيارات تنفق اليوم عشرات ملايين الدولارات للتأثير على الشبكات الاجتماعية، بحيث لو جائك شخص وقال بأن السيارة الفلانية فيها عيب معين، سيأتيك شخص آخر ليقول لك العكس تماما، وهذا يعني بالتالي إيجاد توازن أو بلبلة تؤثر على الجمهور وتمنع الجمهور من التحكم فيه.
هذا كله بدأ يتحول اليوم إلى علم وفن اسمه “التسويق عبر الشبكات الاجتماعية”، وجزء من أهميته يأتي لأن منافس الشركة في السوق قد يعين أشخاصا يظهرون وكأنهم من الجمهور لمهاجمة الخصم، وعدم القدرة على الرد عليهم يعني الكثير من الخسائر في كثير من الأحيان.
كل ما ذكرته أعلاه يشرح باختصار كيف يمكن لـ”المؤثرين” (Influencers) على “تويتر” تحقيق المال، لأن المؤثرين الذين يملكون أكبر عدد من “الأتباع” أو “الأصدقاء” ويملكون القدرة على كتابة الرسالة الجذابة ونشرها، هم من سيحتاجهم كل من يريد التأثير في الجمهور ومقاومة قوتهم المتصاعدة اليوم.
الجمهور كان يوما مجرد متلقي ضعيف، وهو اليوم الخصم والحكم، ولكن قوته تتلاشى مرة أخرى لأنه لا يتحرك في موجات متناسقة، وفن التحكم به يتصاعد تدريجيا بين الشركات والجهات المؤثرة على أنواعها.
ما سيحصل لاحقا – حسب ما أتوقعه – أن الجمهور نفسه سينتبه لكل هذا الجهد للتأثير فيه عبر الشبكات الاجتماعية، وسينمو لديه شك عميق نحو كل شيء يسمعه أو يقرأه، وهنا سينمو شيء اسمه “فن صناعة المصداقية” لمن يستطيع تحقيقه بالطبع..
الجمهور هو أحيانا القاتل والضحية وأداة الجريمة أيضا..
*نشر المقال في جريدة الوطن السعودية