تعاني وسائل الإعلام اليوم من عدة أزمات، ومصدر معظم هذه الأزمات هو الشبكات الاجتماعية، التي نافستها من جهة كمصدر للخبر السريع والمعلومة، وقضت عليها من جهة أخرى من حيث اجتذاب الإعلانات، وهي الوقود الذي يمنح الإعلام وجوده وقوته.
باختصار، لم يعد منطقيا للمعلن أن يضع ميزانيته في وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، بينما يحقق نتائج أفضل بكثير وبميزانية أقل من خلال الإعلان على الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية.
بدون الإعلانات، صار الإعلام معتمدا بشكل كامل على الدعم الحكومي والمال السياسي والتجاري، وهذا الاعتماد أفقده استقلاليته وتوازنه.
هناك استثناءات طبعا، وخاصة وسائل الإعلام الدولية القليلة التي استطاعت أن تخلق جمهورا ضخما لها على الإنترنت، أو تلك التي تعتمد على مساهمات الجمهور، أو تلك التي تمزج الترفيه الدرامي بالأخبار، ولكن البقية جميعها تعاني من أزمة تتضخم كل يوم.
لما ظهرت دوامة “تزييف الأخبار”، التي تحدثت عنها في الأسبوعين الماضيين، بدأت وسائل الإعلام تنضم تدريجيا للتيار الذي يؤمن باستخدام الإعلام للتأثير العاطفي المباشر على الرأي العام.
هل تذكرون لما كانت الجماهير تصدح بسقوط النظام المصري في يناير 2011 ؟
في ذلك الوقت قررت القنوات الإعلامية العربية أن تنحاز لتلك الجماهير وتتبنى خطابا عاطفيا يتجاوب مع تلك اللحظات التاريخية.
في تلك الأيام، بدأ العد التنازلي لتلك القنوات، والتي تورطت في الانحياز العاطفي من قضية عربية إلى أخرى، وبدأ معها العد التنازلي لمصداقيتها كمصدر للأخبار والمعلومات.
نحن نعيش حاليا في زمن “ما بعد الحقيقة”، أي نحن في زمن يتم فيه استخدام كل المعلومات والآراء وحتى الشائعات بشكل استراتيجي للتأثير على الرأي العام.
في 2016 اختار معجم أكسفورد كلمة ما بعد الحقيقة “Post-Truth” كأهم كلمة دخلت المعجم في ذلك العام، وهو في الحقيقة العام الذي يمثل الانطلاقة الهائلة لـ”تزييف الأخبار“.
حاليا، نجد أن تزييف الأخبار له تأثير مذهل في دول مثل روسيا، البرازيل، الهند، أمريكا، وبريطانيا، وقد خلقت حالة من الاستقطاب الإعلامي، حيث كل وسيلة إعلام مع أو ضد اتجاه سياسي معين، متوافقة مع حالة غير معتادة من الاستقطاب السياسي الحزبي كذلك.
هذه الحالة غير المسبوقة جعلت الكثير من المفكرين والإعلاميين ينادون بالبحث عن حل للأزمة لأن ذلك قد يدمر الديمقراطية الغربية إلى الأبد. تخيل أن دولة مثل بريطانيا قد أخذت قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي بكل آثاره الحادة عليها وعلى أوروبا سياسيا واقتصاديا، بناء على تصويت تم بعد حملات مكثفة استخدمت فيها الأخبار المزيفة لتقنع البريطانيين بالاندفاع والتصويت لـ”بريكست”، ولتبدأ معها واحدة من أعنف أزمات بريطانيا السياسية خلال العقود الأخيرة.
في مثل هذه الأجواء، تفقد الديمقراطية قيمتها وتصبح مطية للمتنفذين لا أكثر، لكن الأزمات تحمل الفرص في رحمها أحيانا. أزمة تزييف الأخبار قد تكون هي طوق النجاة لوسائل الإعلام، التي قد يعود لها الجمهور بقوة بحثا عن المعلومة غير المزيفة، وبحثا عن شرح لما يحصل على الشبكات الاجتماعية من حملات وحملات مضادة، الجمهور يحتاج لأن يعرف ما يحصل بعيدا عن محاولات التأثير العاطفي المزيفة.
المشكلة الأكبر هنا هي مصدر التمويل، كيف يمكن لوسيلة إعلامية أن تحصل على دخل بديل للإعلانات بعيدا عن تأثير الممولين ؟
الحل الوحيد المطروح حتى الآن هو أن يدفع الجمهور، سواء على شكل تبرعات، وهذا نموذج أثبت نجاحه في عدة حالات في الغرب، أو على شكل اشتراكات، غالبا للمواقع الإلكترونية الإخبارية وليس الصحف أو قنوات التلفزيون. هذا الحل مطروح بقوة حاليا، وكثير من تجاربه الغربية لقت النجاح، بينما لا توجد لدينا تجارب عربية أو دراسات حول إمكانية نجاحه لدينا.
أدناه أضع عشر نصائح سريعة للزملاء في إدارات الوسائل الإعلامية لرفع مستوى المصداقية واجتذاب الجمهور الباحث عن الحقيقة:
- استخدام ما يسمى بالشفافية المتطرفة (Extreme Transparency)، لقد تغير الجمهور وصار جزءا من عملية تقييم الأخبار، ويحتاج الإعلاميون ليشرحوا له من أين جاءت المعلومة، ومصادرها بالضبط، وقوة هذه المصادر، وكيف وصلوا للنتائج. هذه الشفافية قد تكشف ضعف وسائل الإعلام في أحيان كثيرة، ولكنها قد تمنح الجمهور الأمان في التعامل مع المادة التي تصلهم من وسيلة الإعلام.
- من أهم أركان الشفافية المتطرفة أن تعلن الجهة الإعلامية ميولها، وأن يعلن الإعلامي ميوله، بدون خجل، ولكن في نفس الوقت مع التأكيد أن هذا الميول لن يمنعه من نقل وجهات النظر الأخرى. إذا كنت لا تريد نقل وجهات النظر الأخرى في قضايا معينة فأعلن ذلك.
- جزء من الشفافية المتطرفة أن تذكر بوضوح عندما يكون الخبر غير مؤكد، والبعد عن استخدام العبارات القديمة مثل “مصادر تقول” في محاولة غير مباشرة لتضعيف الخبر.
- توضيح لون مصدر المعلومة لأن معظم المصادر صارت “ملونة”، أي منحازة لوجهة نظر معينة، لم تعد هذه مشكلة في أيامنا هذه، فمعظم المصادر صارت سعيدة بإعلانها لانحيازها لدولة معينة أو فكرة معينة.
الرئيس ترامب اشتهر بغضبه من المصادر واستخدامها بدون توضيح انحيازها الحزبي، وهو محق هذه المرة، لأن أكثر المصادر غير محايدة.
- الحرص على نقل وجهات النظر وعدم تجاهلها، لأن كل الآراء متاحة الآن للجمهور على الشبكات الاجتماعية، وشرح تلك الوجهات كجزء من الحكاية صار أمرا هاما حتى يفهم الجمهور الموضوع بشكل كامل ومريح لهم.
بعض الزملاء يحاول الهرب من مزج المعلومات بالآراء؛ هذا لم يعد مجديا لأننا نعيش في زمن كل المعلومات فيه ملونة بألوان مصادرها.
- وجهات النظر الحكومية يجب أن تؤخذ من مصادرها الرسمية، أي مصادر غير رسمية يجب أن توضع في هذا الإطار بشكل واضح وعدم الاستغناء بها عن المصادر الرسمية.
- دعم أي جهات مدنية أو مؤسسات إعلامية قد تتخصص في الفترة القادمة في دحض الأخبار المزيفة وتوضيحها، وتشجيع هذه الجهات على ذلك.
- إذا أردت مراعاة الجمهور وعواطفه فوضح وجهات النظر الأخرى في الموضوع نفسه، إذا قررت أن تطلق لقب “الشهيد” على أحد، وهناك من يعارض ذلك، أطلق اللقب ولكن اذكر أن هناك آخرون يعارضون ذلك، ووضح من هم.
- ابحث عن جمهورك الذي يبحث عن المعلومة الدقيقة، وراعي احتياجاته.
- حافظ على هدوءك على الشبكات الاجتماعية، ولا تسمح لحسابات تزييف الأخبار باستفزازك، كما لا تحاول الدخول في سباق مع من لا يبالون بدقة المعلومة.
* نشر على موقع قناة الحرة الأمريكية (alhurra.com)