ظاهرة تزييف الأخبار تأثيرات اجتماعية وسياسية ضخمة، وهي في الحقيقة الخطر الأكبر الذي يواجه الصناعة الإعلامية على الإطلاق، وستزداد ضخامتها مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، واستخدام الأخبار المزيفة من قبل أجهزة حكومية حول العالم للتأثير على الرأي العام إقليميا وعالميا.
كان هذا ما تحدثت عنه الأسبوع الماضي. الفيلسوف الأمريكي لي ماكنتير، الأستاذ بجامعة بوسطن، ألف كتابا عن الظاهرة باسم “ما بعد الحقيقة” (Post-Truth)، معتبرا أننا تجاوزنا المرحلة الزمنية التي يمكننا فيها الحصول على “الحقائق” وأننا نعيش في زمن “الحقائق البديلة”، حيث لا يتم فقط تحوير كل الحقائق لتخدم أغراضا معينة، بل ويتم محاربة وإلغاء كل الحقائق الأخرى.
نحن باختصار رأينا “موت الحقيقة” أمام أعيننا، وحملنا نعشها على أعناقنا، ونعيش العهد الذي يليها.
لكن هذا كله لا يعني الاستسلام لوحش الأخبار المزيفة والمتحكم بها لغسيل أدمغتنا بشكل يومي، المشكلة هنا ليست فردية، بل دولية، لأن نجاح التجربة الروسية في الانتخابات الأمريكية الماضية، وتجارب أخرى كثيرة لم تحظ بالأضواء والبراهين نفسها، شجع الدول على محاولة التأثير في الدول الأخرى من خلال الأخبار المزيفة، مما يحول الأمر لقضية أمن قومي لكل دولة، ومن يتهاون في صدها والتعامل معها، قد يصبح ضحية تأثير الدول الأخرى وأنظمة تزييف الأخبار بأنواعها.
ما هي الحلول إذن ؟
هناك الحل السهل الذي يخطر في بال المسؤولين الحكوميين بسرعة، وهو سن التشريعات والقوانين التي تحارب الظاهرة وتجرم من يساهم فيها.
هذا حصل فعلا في فرنسا وألمانيا وسنغافورة وماليزيا وعدد من الدول العربية، بالإضافة إلى روسيا والتي شرعت القانون الأكثر قسوة على الإطلاق بين هذه القوانين.
بعض هذه القوانين يركز على أي أخبار كاذبة تسيء للدولة كما في حالة روسيا، وبعضها يحصرها في أخبار الكراهية مثل ألمانيا، ولكن جميع هذه القوانين تعاني من مشكلتين:
- الأولى: الصعوبة الشديدة لإيجاد تعريفات قانونية واضحة تحدد الخبر الكاذب، وتحدد المسؤول عن نشر الأخبار، ومتى يكون مذنبا.
- الثانية: استفادة بعض الحكومات من هذه الضبابية في القوانين في كبح حرية التعبير، ومعاقبة النقد السياسي والإعلام غير الداعم للحكومات.
في ألمانيا، يضع القانون عبئا على الشبكات الاجتماعية “فيسبوك” و”تويتر” وغيرها، بأنها في حال لم تحذف أي محتوى بأمر المحكمة خلال 24 ساعة فسيتم فرض غرامة تصل إلى 50 مليون يورو.
هذا القانون وقوانين دول أخرى، وضعت عبئا على الشبكات الاجتماعية لفرض رقابة ذاتية لتجنب هذه المشكلة، ولكن لأن كل أنظمة الرقابة آلية وتعتمد على الذكاء الاصطناعي، فهي ما زالت محدودة جدا في التعامل مع الأخبار المزيفة وترتكب أخطاء كبيرة دائما.
لكن الحل الحقيقي الأكثر فعالية هو التعليم والتدريب، في عدد من دول العالم المتقدمة، صار ما يسمى بـ”المواطنة الرقمية” (Digital Citizenship) منهجا أساسيا في كل المراحل الدراسية، وهي مادة دراسية تعلم الأطفال والمراهقين بأساليب إبداعية الكيفية الصحيحة للتعامل مع الشبكات الاجتماعية والمصادر الرقمية بما يقلل من كل الظواهر السلبية بما فيها الأخبار المزيفة.
في الدول العربية، مازال هذا مفقودا رغم أهميته البالغة، وهذا بسبب بطء تطور أنظمة التعليم العربية. هناك محاولات طبعا، فمكتب التربية العربي لدول الخليج والذي يتبع مجلس التعاون الخليجي، نشر إصدارا متكاملا عن المواطنة الرقمية، ونشر دليلا للآباء للتنشئة الرقمية الصحيحة للأطفال، ولكنها لم تجد طريقها للتطبيق في المدارس بعد.
بالمقابل، هناك برامج متطورة في مختلف أنحاء العالم باسم “محو الأمية الإعلامية” (Media Literacy) ومحو الأمية الرقمية (Digital Literacy)، وهذه البرامج تستهدف الكبار لتحقيق الهدف نفسه، وتركز بالذات على موظفي الأجهزة الحكومية والمعلمين وغيرهم، ومازال هذا محدودا جدا في العالم العربي أيضا.
الحل الأخير مرتبط بالمؤسسات الإعلامية “المطبوعة والمرئية والإلكترونية”، والتي قد تجد في تقديم المعلومة ذات المصداقية طوق النجاة لها من أزماتها، فقد يعود الجمهور إليها بعد هجرانها بحثا عن المعلومة الصحيحة وغير المزيفة، بعد أن سيطر الزيف على الشبكات الاجتماعية.
المؤسسات الإعلامية للأسف تقع أحيانا تحت طائل التأثير الحكومي أو التجاري الذي يجعلها شريكة في “تزييف الأخبار”، وأحيانا تساهم في ذلك من حيث لا تدري حين تحرص على نقل كل شاردة وواردة على الشبكات الاجتماعية، ولو بالنفي أحيانا، ولكنها في حالات كثيرة ترغب في تقديم معلومة صحيحة للجمهور.
في الأسبوع القادم، سأتحدث بالتفصيل عما يمكن للمؤسسات الإعلامية فعله لبناء مصداقيتها في زمن “ما بعد الحقيقة“.
قد يكون من السهل أحيانا أن تغمض عينيك وتفترض الشك المطلق في كل ما تقرأه وتسمعه حتى ترتاح، ولكن هذا يعني أن نعيش حياتنا بلا اتصال بالعالم من حولنا. بالتأكيد، العزلة ليست الحل، وبالتأكيد، الحل أن نسبح ضد التيار.
* نشر على موقع قناة الحرة الأمريكية (alhurra.com)