تخيل معي لو أردت. تخيل لو أن البيان الختامي كتبه مجموع المواطنين العرب، لو أن كل شخص في الشارع العربي ساهم في كتابة البيان الختامي، بحيث عبرت كل أجزاء البيان وقرارات القمة والمفردات المختارة عن ما يريده الأغلبية من الناس، فكيف يا ترى سيكون شكل البيان؟
إذا كنت تختلط بالشارع العربي وتتحدث إلى البسطاء والعامة والشباب وتقرأ مدونات ومنتديات الإنترنت ومجموعات الإيميل الإلكتروني فبإمكانك ببساطة أن تتوقع أن يكون بيان القمة مجموعة من النداءات شديدة الغضب وغير الواقعية التي تعلن حل كل الأزمات بشكل مثالي والقضاء على كل الأعداء وإنهاء كل معاناة من كل نوع للمواطن العربي والصعود بكل دول العالم العربي إلى قمة الحضارة وذلك في فترة لا تتجاوز عدة أشهر.
الثقافة السياسية للشارع العربي ثقافة ساذجة وغير عملية وتعيش في الأحلام وكان لهذا آثاره السلبية الحادة على الواقع السياسي لأنه ببساطة ساهم في صناعة قادة جماهيريين للشارع العربي لم يقودوه إلا للمزيد من الدمار، سواء كنا نقصد نماذج مثل خطابات صدام حسين أو خطابات أسامة بن لادن والظواهري أو حتى الكتاب والخطباء الذين حققوا شعبيتهم على أكتف الجماهير المحتشدة والصارخة بلا وعي ولا فهم.
بسبب الثقافة السطحية والساذجة وقف الكثير من القادة العرب عاجزين عن اتخاذ قرارات سياسية عملية لمصلحة دولهم مجاراة لهذا الشارع الساذج، وصرنا كمن يريد معالجة الأزمات الخانقة دون أن يغضب أحدا، فوقفنا نتفرج على الأزمات دون أن نفعل شيئا.
عندما تقرأ تعليقات عموم الناس على القمم العربية واستيائهم الشديد من كونها مجرد “كلام في كلام” فهو راجع لأن الناس لا تفهم تعقيدات واقعنا السياسي التي يقف العالم أمامها محتارا، الأمريكيون والأوروبيون والآسيويون وزعماء العرب ومفكرو علم السياسة والقادة الأيديولوجيون يقفون محتارين أمام تعقد الأزمات في الشرق الأوسط، ويبحثون عن حل، ولا يتوقع أن يجلس القادة العرب ليجدوا حلا سهلا لهذا الوضع التاريخي الغريب.
أكتب كل هذا ليس لأدافع عن فشل السياسة العربية في حل الأزمات، وليس لأثبط من المحاولات التي تبذلها دول عربية عديدة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لمعالجة القضايا السياسية رغم كل الظروف الصعبة، ولكن لأذكر بأهمية تعليم الشارع العربي سياسيا ولأهمية سحبه نحو الواقعية في فهم الأمور، حتى يمكن كسب رضاه عندما نجد حلا جراحيا لأزماتنا يتطلب تضحيات وتنازلات قد لا تعجب طلبة الجامعات وسائقي التاكسي وكتاب المنتديات.
لكن التعليم السياسي أمر ليس بالسهل بل يتطلب إيمانا عميقا من صانع القرار بأهمية ذلك حتى يستطيع تحمل كل الأعباء التي تأتي معه.
في أوروبا وأمريكا يبذل عضو الكونجرس أو البرلمان جهودا غير عادية ليشرح للناس لماذا صوت على قرار معين ضد قرار معين، وكيف يصب هذا في صالحهم وكيف أن أي قرار آخر قد يضر بهم، ويشرح لهم التوازنات التي يخضوها.
التعليم السياسي يتطلب كتابا يشرح ألف باء السياسة، وكيف أن على السياسيين بذل جهود لإرضاء الجميع، لأن الأطراف الغاضبة تملك عادة خيوط مصالح يمكنها تدمير الاتفاق إذا لم تكن راضية عنه، ويمكنها تمثيل إزعاج للدولة التي تتجاهلها، وكيف أن تحقيق ذلك يعتبر عادة مهمة في غاية الصعوبة.
لو كتب الشارع العربي قرارات قمة الرياض وهو يدرك كل هذه الأبعاد مضطرا للابتعاد عن عواطفه المثالية لأنه يفهم استحالة ذلك لكان الأمر مختلفا تماما.
لقد رحب الشارع العربي بشكل غير معتاد باتفاق حماس وفتح، لأنهم راقبوا عبر الأشهر تعقد الأزمة في فلسطين حتى صار الناس محتارين أمام الحل، ولذلك قدروا كثيرا المهمة المستحيلة للمملكة العربية السعودية عندما رعت اتفاق مكة، فهم يعرفون أن الأزمة كانت شديدة التعقيد.
أنا لا أقدم العذر لفشل العرب في حل الكثير من المشكلات السياسية، فمن المؤكد أن هناك حكومات كثيرة تقوم بأدوار غير فعالة وسلبية، وأن هناك حكومات تسعد بالجهل السياسي المطبق لشعوبها، ولكنني أؤكد على أنه ما لم يتم معالجة واقع الشارع العربي فسيكون جاهزا في أي يوم لينطلق وراء خطاب يدغدغ عواطفه السياسية وينطلق بهم نحو المزيد من الأزمات.
ما أخطر السياسة والعواطف إذا وضعوا في وعاء واحد!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية