أثار قرار نقل المركز الرئيسي لشركة هاليبرتون الأمريكية العملاقة، إلى دبي ردود فعل متنوعة، وكان من أبرز ردود الفعل الهجمة السياسية الشديدة داخل أمريكا، وخاصة من الديمقراطيين، ضد الشركة التي تخلت عن الوطن الأم بعد أن استفادت منه إلى أقصى حد ممكن بسبب علاقاتها السياسية المتميزة برجالات حكومة الرئيس بوش، إلى دولة أخرى رأت الشركة أن مصلحتها تقتضي منها أن تكون هناك.
وإذا كان هذا الإنجاز يحسب لدبي التي استطاعت استقطاب هاليبرتون، فإن هذه الهجمة الشديدة في الحقيقة هي جزء من رد الفعل الشعبي السلبي ضد التغييرات الاقتصادية التي أحدثتها العولمة، فقبل هاليبرتون، نقلت آلاف الشركات الأمريكية عملياتها خارج أمريكا إلى آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وخسر ملايين الأمريكيين وظائفهم، والسبب ببساطة هو أن هذه الشركات فضلت مصلحتها التجارية على مصلحة الوطن، وقررت تخفيض نفقاتها من خلال العمل في دول أقل تكلفة.
مثل هذه الجهود، والتي ساهمت ثورة الاتصالات والإنترنت وغيرها في تحقيقها، كانت سببا في آلاف المظاهرات العام الماضي في أمريكا وأوروبا، وقد يتفاقم الوضع بشكل أكبر إذا استمر تيار الهجرة إلى خارج أمريكا في الصعود دون قرارات من الكونجرس تمنع ذلك.
أزمة أمريكا مع هذه القضية أزمتان: فمن جهة، ما يحصل هو تطبيق حرفي للنظرية الرأسمالية التي تحفز الدول على إعطاء الشركات حريتها، وتحفز الشركات على بذل كل ممكن للحصول على أفضل الأرباح، ومن جهة أخرى، فإن أي قرارات تضعها أمريكا في وجه انتقال الشركات معناه الانقلاب على مبادئ العولمة والتجارة الحرة التي أطلقتها أمريكا نفسها ودعمت الأنشطة العالمية التي تصب في صالحها.
لكن هذا لا يمنع الناس من مناقشة ما إذا كان مثل هذه الهجرات التجارية مناف لمبادئ الوطنية، وفي الحقيقة فإن الشد والجذب بين الوطنية وعالم الأعمال هي مسألة متشعبة ويطول فيها النقاش.
السؤال المفتوح الذي يلخص القضية: إذا كانت الشركات ملكية خاصة لأفراد، وإذا كان الأفراد لهم الحق في فعل ما يريدون بشركاتهم، فما مدى مسؤولية الشركة والقطاع الخاص ورجل الأعمال نحو الوطن؟
في الكثير من المقالات الصحفية، تجد مطالبات للقطاع الخاص أن يتدخل لحل المشكلات، مشكلات البطالة والاحتياجات المحلية والأعمال الخيرية والنشاط السياسي والإعلامي والتطوير العام، وبعض هذه المقالات يتهم الشركات بالتقصير ويتهم رجال الأعمال بضعف الوطنية عندما يهتمون بمصالحهم ولا ينفقون بعض المال الذي لديهم على دعم هذه الاحتياجات الوطنية.
هذا يؤكد أن النقاش حول الاقتصاد والوطنية هو أيضا قضية مطروحة لدينا بشكل غير مباشر، وهي قضية ستتضخم عالميا لأن دور القطاع الخاص يتزايد بسرعة، ورجال الأعمال تحولوا إلى قوى لا يستهان بها بسبب رؤوس الأموال التي يحركونها، بالإضافة إلى أن الاقتصاد بشكل عام صار أحد أبرز المحاور الاستراتيجية لنمو أي دولة وتفوقها في المحيط العالمي.
ولعل أكبر مشكلة تجعل حسم هذا الامر صعبا جدا هو أن العالم مبني حاليا على النظرية الرأسمالية / الديمقراطية / الفردية التي رسمت كل القواعد، وهذه النظرية كما ذكرت لا تحمل القطاع الخاص أي مسؤوليات اجتماعية نحو الوطن، سوى دفع الضرائب التي يقررها الجهاز التشريعي للدولة.
هذا معناه أن علاج المشكلة يتطلب نظرية من نوع مختلف وجديد، وربما كانت هذه التغيرات العالمية التي تحصل حاليا هي مفتاح حقيقي لمثل هذه النظرية، وخاصة عندما تتفاقم مشكلات الدول الكبرى التي تواجه شبح البطالة وهروب الأعمال التنفيذية إلى الدول الآسيوية التي تتميز بكثافة السكان والمهارات مع رخص التكلفة.
أحد النظريات المطروحة تقوم على تشجيع العمل التجاري غير الربحي، أي قيام مؤسسات تجارية عملاقية كالمصانع وشركات التجزئة وغيره والتي تقوم على مبادئ تجارية صحيحة، ولكن أرباحها في النهاية تصب في مصلحة المجتمع الذي يملك هذه الشركات، وبحيث يحكم هذه الشركات مجالس منتخبة من المدينة أو الدولة، وهو مفهوم موجود في أمريكا ومطبق في بعض شركات الكهرباء والمياه والشركات الصحية، ولكن النظرية تطالب بالتوسع في هذا المجال بشكل أكبر، وخاصة في الدول التي ترتفع فيها مستويات البطالة.
بالنسبة للعالم النامي، فإن المسألة مختلفة، لأن الدول ما زالت في مرحلة نمو بطيء، والتنمية هي مسؤولية الجميع، القطاع الخاص والقطاع العام والقطاع الخيري والأفراد، والتنمية تحتاج للتكاتف لأن التحدي ضخم جدا ولا يمكن لقطاع واحد أن يقوم بالمهمة لوحده.
عندما يقف رجال الأعمال في وضع لا يخدمون فيه أوطانهم، فهم بشكل أو بآخر يشبهون الوطن الذي يقف في وجه نمو الاقتصاد والأعمال.
اليد الواحدة لا تصفق!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية