من المجالات العلمية التي أرى أننا مقصرون جدا في التعامل معها والاستفادة منها هي مجال “صناعة القرار” Decision Making، والذي تأسس في أوساط القرن العشرين وكان له دور هام في الغرب في تطوير مؤسسات القطاعين العام والخاص.
إحدى النظريات المميزة في مجال صناعة القرار تسمي نظرية “تفكير المجموعة” GroupThink، والتي أسسها عالم أمريكي نفسي شهير “جينيس” عام 1972.
النظرية باختصار وتبسيط تقول بأن المجموعة التي تتخذ القرارات المهمة وتتميز بروح الفريق قد تنجرف نحو طريقة تفكير جمعية تقودهم لاتخاذ قرارات خاطئة ومتهورة رغم أن الخبرة العالية لبعضهم والمعلومات المتوفرة كانت كافية لاتخاذ القرار الصحيح.
بعد ظهور النظرية، خرجت مئات الدراسات التطبيقية على أساسها، التي دعمت مصداقية النظرية، حتى أن أحد المؤرخين طبق النظرية على القرارات الرئاسية الأمريكية وأثبت من خلال مراجعة الوثائق الخاصة بها أن أسوأ 19 قرار رئاسي في تاريخ أمريكا كان سببها هذه الظاهرة، وجاء آخر ليثبت أن كثير من قرارات الشركات الكبرى المتهورة كانت بسبب هذه الظاهرة، وجاء باحثون آخرون ليثبتوا أن قرارات هيئات المحلفين القضائية التي ثبت خطأها الكبير لاحقا كانت أيضا بسبب ظاهرة “تفكير المجموعة”.
العوامل التي تسبب ظاهرة تفكير المجموعة هي عوامل منتشرة في مؤسساتنا الاقتصادية والحكومية وتحتاج لتأمل واسع لتفاديها أثناء عملية صناعة القرار، ومن هذه العوامل الأسلوب الإداري أو القيادي للرئيس أو المدير، عندما لا يشجع الآراء المخالفة والحوار المفتوح بين الآراء، أو عندما يسبب احترام المجموعة له ولخبرته أن يتبنوا وجهة نظره والمبررات التي يطرحها.
من العوامل أيضا: انعزال المجموعة عند اتخاذ القرار عن الآراء الخارجية، عدم وجود آلية واضحة لتنسيق الحوار واتخاذ القرار، عدم وجود التنوع في الفريق وانتمائهم لنفس الخلفية الثقافية والعرقية والدينية، وقوع المجموعة تحت ضغوط خارجية أثناء صناعة القرار، ضعف ثقة المجموعة بنفسها بسبب قرار فاشل اتخذ حديثا، أو بسبب الأبعاد الأخلاقية للقرار، أو بسبب صعوبة القضية التي يتخذ فيها القرار، الرغبة في الوصول لاتفاق جماعي على القرار، وغيرها من العوامل.
لو تأملت في كثير من الاجتماعات التي تعقد في مؤسساتنا العربية، لوجدت أنها تعاني من كثير من هذه العوامل والتي تساهم في صناعة قرار فاشل أو ضعيف، ولفهمت لماذا تصدر الكثير من القرارات ويتم التراجع عنها لاحقا رغم أن الخطأ واضح للعيان ولا يحتاج لمعايشة الفشل لاكتشافه.
الباحثون في هذا المجال اقترحوا عدة أفكار لمعالجة هذه الظاهرة، ومن أشهر هذه الأفكار ما يسمى بـ”وكيل الشيطان” Devil’s Advocate، وهو عبارة عن موظف يتم تعيينه بهذا الاسم ويتدرب على آليات هذه الوظيفة أو مستشار يتم الاستفادة منه عند الحاجة، وما يقوم به هو أن يجلس في الاجتماع ويحاول مناقضة كل فكرة أو معاندتها والمطالبة بالأدلة والحجج الكافية التي تثبتها وتشجيع الآراء الغريبة لأخذ حقها من النقاش وتحدي الآراء الجماعية، ويقوم بمناقشة المدير بشكل مكثف، مع المحافظة على المهنية والاحترام، كما يحاول النظر للعوامل التي تؤدي لـ”تفكير المجموعة” ومعالجتها قبل اتخاذ القرار الهام.
هناك أساليب أخرى مقترحة تتعلق بالإجراءات التي تتخذ أثناء صناعة القرار، وهناك أبحاث كثيرة حول التفاصيل، مثلا الوقت اللازم لتطبيق كل آلية ونوعية الآلية المناسبة لكل نوع من القرارات.
في بحث أجريته أثناء مرحلة الدراسات العليا كان حول الاستفادة من غرف الدردشة chat rooms، بحيث تظهر الآراء والنقاشات دون أن يعرف أحد من قائلها بينما يكون المجتمعون كل منهم في مكتبه، الأمر الذي يفترض أن يكون له أثر إيجابي كبير على تميز القرار مقارنة بمجموعة ناقشت نفس القرار بالطريقة الكلاسيكية.
النتيجة النهائية من كل ما سبق أن الشركات واللجان والمؤسسات والمدراء عليهم أن يعطوا المزيد من التركيز لآلية صناعة القرار لأنها المفتاح للنجاح أو الفشل على كل المستويات.
ومضة خافتة:
سئل أحد المفكرين الاقتصاديين الذين عملوا مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن أهم ما يميزه كواحد من أنجح رؤساء أمريكا في العقود الأخيرة، فكان جوابه بأن كلينتون كان “صانع قرار ناجح”!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية