كيف تمنع أمريكا انهيارها؟

من قسم سياسة
الإثنين 06 أغسطس 2007|

رغم أن هناك نظريات كثيرة ومئات الكتب التي تتحدث عن انهيار الحضارة الأمريكية، فإن الحقيقة أن أمريكا ستحافظ على قوتها ما دامت ملتزمة بآليات المراجعة والتصحيح الداخلية والتي تضمن لها الاستمرار والمحافظة على التفوق وتعديل الأخطاء عبر الزمن.

كان هذا ملخص مقالي في الأسبوع السابق، ويبدو أن السؤال الذي يتبع مثل هذه النتيجة هو تحديد تلك الآليات التي استطاعت أمريكا أن توجدها في نظامها العام بشكل مميز ساهم بشكل أساسي في انتقالها عبر قرنين من الزمن من أرض بدائية فيها مجموعات من السكان المحدودة المتوزعة عبر أراضيها الشاسعة إلى القوة الأعظم والأكثر تقدما في العالم.

ولعل ما يميز الحضارة الأمريكية عن كثير من الحضارات الأخرى أن هذه الآليات ليست موجودة بسبب التزام الذين يحكمون الدولة بها، كما هو الحال في كثير من الحضارات الموجودة أو السابقة حيث كانت “حكمة” الدولة هي التي تساهم في تقدمها، بل هي موجودة في حالة أمريكا بسبب النظرية التي قامت عليها كل الأنظمة في أمريكا، والتي تفرض نفسها على كل من يحكم أمريكا في مختلف أجهزتها حتى لو كانوا “حمقى”، وعموما فإن وجود نظرية تحكم الدولة وتؤطر كل سلوكيات الدولة السياسية هي ميزة لم تتمتع بها إلا حضارات محدودة العدد عبر التاريخ.

تقوم أمريكا _ كما هو معلوم _ على الديمقراطية التي تحكم النظام السياسي والرأسمالية التي تحكم النظام الاقتصادي، وكلاهما مرتبط بنظام اجتماعي يؤمن بحرية الفرد المطلقة ما دامت هذه الحرية لا تتصادم “بشكل حاد” مع مصلحة المجموع، وهذا كله أوجد “تدافعا” مكثفا للأفكار يضمن للفكرة التي تكسب ولاء الأغلبية ودعم النخبة الانتصار والتطبيق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ويبدو أن أفضل ما يميز النظام السياسي في أمريكا هو الانفصال الكامل للسلطات بحيث لا تكون هناك سلطة تملك اليد العليا في الدولة، فالرئيس الأمريكي المنتخب كل أربع سنوات يحتاج دائما لدعم الكونجرس المنتخب كل سنتين، ولكن الرئيس يملك كذلك صلاحية رفض القرارات التي يصدرها الكونجرس، والكونجرس لديه آلية من خلال “الأغلبية الساحقة” لإجبار الرئيس على تنفيذ قراراته، وداخل الكونجرس يوجد مجلسان منفصلان “النواب والشيوخ”، وكل قرار يجب أن يلقى موافقة المجلسين معا، ويأتي النظام القضائي وعلى رأسه المحكمة العليا _ والذي يرشح الرئيس أعضائها بشرط موافقة الكونجرس عليهم _ ليملك سلطة مستقلة تخوله رفض أي قرار للرئيس أو الكونجرس يرى أنه يخالف الدستور الأمريكي الذي لا يمكن تغييره إلا بإجراءات معقدة وبموافقة القوى الثلاثة معا، كما تملك السلطة القضائية القدرة على التحقيق ومعاقبة من يخالف الدستور أو القوانين بما فيها الرئيس وأعضاء الكونجرس.

هذا الانفصال والترابط الشديد في آن واحد يفرض على النظام السياسي في أمريكا أن يكون حكيما غير متهور، وحتى عندما تحصل حالة مثل الفترة الأولى للرئيس بوش، حين كان الرئيس والأغلبية في الكونجرس من حزب واحد، فإن الناس أمكنها تغيير الكونجرس لحزب آخر عندما لم تعجبهم أيديولوجية الحزب السابق، ولم تغير الرئيس عندما لم يقنعهم الشخص الذي ينافسه، وهذا يعني تغيير الأمور عبر الزمن، وقد حصل هذا عدة مرات في العقود الأخيرة.

ويوجد في أمريكا بخلاف الدول الغربية الأخرى عدد هائل من المنظمات غير الربحية ومجموعات الضغط ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام والجامعات الأكاديمية، وجميعها مستقلة تماما عن التأثير الرسمي لأي من السلطات الثلاث، وهذه المؤسسات جميعها تناقش كل صغيرة وكبيرة، وتساهم بشكل أساسي في التصحيح والمراجعة، وتؤثر على الشعب والنخبة، ولك أن تتخيل مثلا أنه عندما يدخل عضو الكونجرس إلى الصالة للتصويت على قرار ما، فهو يحمل في الغالب عدد من الدراسات المميزة للقرار من الناحية القانونية والسياسية والتكتيكية والعلمية، كما قد تلقى عددا هائلا من الاتصالات على مكتبه من منظمات عديدة ومن الناس الذين في ولايته حول القرار، كما يعرف تماما رد فعل وسائل الإعلام ورد فعل مجموعات الضغط حول مختلف أبعاد القضية.

هذا الزخم الهائل من المناقشة لكل قرار تحول لماكينة جبارة للتقدم والتصحيح، وما دامت أمريكا تناقش كل أمورها بهذا الزخم، مع وجود الحرية الأكاديمية التي تسمح للنخبة بإبداء الرأي، وما دامت قدرة الأجهزة المستقلة على التأثير على بعضها “تحت الطاولة” محدودا فستبقى أمريكا قادرة على التحكم في زمام الأمور وتصحيح أخطائها والمحافظة على تفوقها، طبعا ما لم تظهر نظرية أخرى في مكان آخر في العالم تستطيع بناء حضارة أكثر ذكاء وتفوقا.

من المهم هنا إدراك أن هناك العديد من الثغرات الرهيبة في النظام الديمقراطي والرأسمالي والاجتماعي، فمثلا اعتماد النظام الديمقراطي على التصويت المتساوي لكل فئات أفراد الشعب يسمح للمرشح الذي يستطيع استمالة العواطف لمحبته والثقة به لقيادة الناس نحو الخطأ، وهذه ثغرات يعترف بها الأمريكيون ولكنهم يجيبون دائما في آخر مناقشتها أننا لم نجد حتى الآن نظاما أفضل فيه من الكمال بما يمنع وجود هذه الأخطاء ويحقق ميزات النظام الديمقراطي والرأسمالي.

في الأسبوع القادم سأتناول بسرعة كيف أخطأ الأمريكيون في العراق رغم الذي ذكرته أعلاه.

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية