الحضارة الغربية والتفوق الأمريكي علامتان فارقتان في مسيرة القرن العشرين التاريخية، وفهمها أمر أساسي لفهم مجريات القرن السابق وقرننا الجديد، ولعل أبرز ما يميز أمريكا هو قدرتها على مقاومة عوامل الهدم من خلال آليات التصحيح الداخلية ومن خلال نظام يوجد الكثير من التوازن في صناعة القرارات الأمريكية.
كان هذا ملخص المقالين السابقين، وفي هذا المقال أختم هذه السلسلة بطرح مثال يشرح الفكرة من خلال تحليل الحرب الأخيرة على العراق.
وإذا كان القارئ ينتظر من العنوان تحليلا عسكريا أو سياسيا، فليس هذا المقصود أبدا، بل المقصود بالتحديد كيف يمكن لنظام ضخم استطاع أن يحقق نجاحات تاريخية عملاقة أن يكون جزءا من حرب خاسرة لم تحقق أهدافها بل كان ضحيتها آلاف الأبرياء وسمعة أمريكا واستقرار المنطقة السياسي والاقتصادي؟ أين كانت هذه الآليات ولماذا لم تعمل عملها؟
هذا لا يعني أن النظام الأمريكي لا يرتكب أخطاء عادة، بل هناك عشرات الأخطاء الكبرى، والمؤرخون عادة يحاولون دراسة كل خطأ على حدة ومناقشة أسبابه، واختياري هنا للعراق هو فقط لاهتمانا كعرب الخاص بهذه الحالة.
هناك عدة مشكلات عملت على شكل سلسلة متتوالية ساهمت مع بعضها في قيادة أمريكا لارتكاب هذه الأخطاء التاريخية، أولها أنه في حالة أمريكية نادرة سيطر الحزب الجمهوري بمفرده على الرئاسة ومجلس الشيوخ ومجلس النواب، وكان هذا نتيجة جهد ضخم استمر عدة سنوات “خلال فترة كلينتون” ذهب فيه الجمهوريون للكنائس واستغلوا الصحوة الدينية التي عاشتها أمريكا في أواخر التسعينات، واستطاعوا كسب الجمهور المتدين بسبب مبادئهم المحافظة، مثل منع الإجهاض ومحاربة الشذوذ والسماح بالصلاة في المدارس، كما توجه الجمهوريون لقطاع الأعمال وكسبوه ببساطة، لأنه في كل مرة يحصل رخاء اقتصادي في أمريكا _ كما حصل في التسعينات _ يبحث رجال الأعمال عن الجمهوريين الذين ينادون عادة بتقليص الضرائب.
هذه الهيمنة غير العادية للحزب الجمهوري على المؤسسة التشريعية والتنفيذية في آن واحد جعل للرئيس قوة خرافية، بحيث صارت أمريكا تدار من البيت الأبيض وحده بدلا من أن تدار من توازن بين الرئاسة ومجلسي الكونجرس، علما أن كلما حصلت هذه الهيمنة في التاريخ الأمريكي سابقا كان هذا سببا في كوارث سياسية لانفراد الرئيس بالقرارات.
تزامنت هذه الهيمنة مع حالة عاطفية سادت البلاد على إثر أحداث 11 سبتمبر.
فجأة شعر الأمريكيون أن هناك خطرا يجتاح بلادهم، خطر من النوع الذي لا يعرفونه، فأمريكا مجهزة عسكريا لتواجه الدول، أما أن يكون الخطر على شكل أشخاص من الداخل يستغلون حرية الحركة داخل أمريكا لتحويل حياتهم إلى جحيم فهذا لم يحسبوا له حساب.
كان هناك شعور هائل بالغضب وشعور بالألم على الضحايا، وهذا لم يعط الحزب الجمهوري والرئيس الأمريكي الضوء الأخضر للحركة المطلقة فحسب، بل وضعهم تحت تحد أن يفعلوا شيئا يليق بهيبة أمريكا، ووضع الآخرين المعارضين كلهم في زاوية ضيقة يبدون فيها وكأنهم يقفون مع الذين يحاربون أمريكا.
بعد 11 سبتمبر ظهرت الكثير جدا من الدراسات الأكاديمية والتقارير الصحفية والأصوات العاقلة التي حذرت من الانجراف نحو حرب في العراق، ولكن العامل العاطفي منع الأمريكيين من الاستماع.
ساهم في المشكلة عامل هام جدا آخر وهو جهل الأمريكيين غير العادي بالشؤون الخارجية، فأمريكا تعني للأمريكي الأرض كلها وما خارجها بلاد ما وراء البحار التي لا تعنيه في شيء، ولما بدأ أعضاء الكونجرس في التصويت بشأن العراق، قضية بعد الأخرى، كان كثير من الأمريكيون يظنون أن العراق هي التي أرسلت الإرهابيين في 11 سبتمبر، ولذا لم يكن أعضاء الكونجرس يقلقون كثيرا بشأن أي رد فعل سلبي ضد قرارتهم من الأشخاص الذين انتخبوهم.
بالمقابل، اتحدت أقوى جماعات الضغط في أمريكا، اتحاد منتجي السلاح، واللوبي اليهودي ضد العراق مشجعة الجمهوريين على الحركة، فيما ذهبت جهود جماعات السلام على أنواعها ضعيفة مقابل هذا الضغط الهائل.
إن عيب النظام الديمقراطي، كما ذكرت في المقال السابق، أنه يعتمد على جماهيرية الزعيم وشعبيته، وهذا يعني أن العامل العاطفي يكون له وزنه الضخم، وعندما تواجه الأمة ظروفا غير طبيعية فهي قد تقع بسهولة في الأخطاء مع اندفاعها، وخاصة إذا كانت ما تعرفه عن القضية محدودا جدا.
وعندما يتعطل دور الإعلام والمعارضة بسبب العامل العاطفي، وعندما تتحول جماعات الضغط التي يفترض أن تعمل للتصحيح إلى دور سلبي لخدمة من يقفون وراءها، فإنه ليس من المستغرب أن تخطئ أمريكا وتذهب إلى حرب لا تعرف كيف تخرج منها ولا تعرف كيف تحقق فيها أهدافها.
أمريكا تعيش حاليا بوادر التصحيح من خلال السيطرة الديمقراطية على الكونجرس ومحاولة الكونجرس إغلاق الملف العراقي.
إذا نجح التصحيح، فهذا إثبات على أن الآليات التي تحدثت عنها الأسبوع الماضي قد أدت دورها مرة أخرى، وإذا لم ينجح فقد يعني هذا أن أمريكا مقبلة على عهد جديد تحكم فيه بطريقة مختلفة تماما عما كانت عليه خلال القرون الماضية منذ تأسيسها.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية