مصالح الناس اليومية أهم من تطبيق المبادئ الأيديولوجية لنظام الحكم.
هذا هو مختصر المقال أدناه، والذي أحاول فيه تفصيل الشروط والظروف المرتبطة بهذه النتيجة.
تخيل أن مدير شركة كبرى مؤمن بقضية ما _ حماية الأوزون مثلا! _ يختار عقد صفقات شركته مع الشركات التي يديرها فقط من يشتركون معه في نفس القضية ولو كان هذا على حساب نجاح شركته، ويختار أن يزوج ابنته للأشخاص الذين يشاركونه المبدأ نفسه، حتى لو كانوا فاشلين وسيئي الخلق.
في كلتي الحالتين، فضل “المدير” مبادئه الأيديولوجية على مصلحة شركته ومصلحة بيته، فكانت النتيجة هي الخسارة لشركته والتعاسة لابنته، وهي نتيجة محتملة دائما عندما تضع المبادئ الأيديولوجية والمصلحة العامة في وعاء واحد!
وطبعا من العظيم والمهم جدا أن يكون للإنسان مبادئه ورؤاه الفكرية وقضاياه التي يحارب ويموت من أجلها، وجميل أن يساهم الناس في تكوين “عقيدة الأمة” وتراثها وأحلامها، ولكن المخاطرة تحصل عندما تتصادم هذه المبادئ مع مصالح الناس واحتياجاتهم، ويتولد الصراع بين الرغبة في الدفاع عن الشعارات وبين الناس الذين يعانون بسبب عدم تحقيق التوازن اللازم بين الشعارات وبين المصالح.
هذا التصادم نفسه يحصل عندما تتكون أي حكومة عليها أن تمارس السياسة بناء على مبادئها، وتمارس الإدارة اليومية لسير الحياة في الدولة بناء على مصالح الناس، وهو تصادم جعل المفكرين السياسيين دائما في حيرة، ولم يكن له جواب _ حتى الآن _ إلا “الحل الديمقراطي”..
يفترض المفكرون السياسيون أن الناس عندما تختار من يمثلها في الحكم، ستنظر مليا في الأمر وتختار من يراعي مصالحها بشكل أساسي، وأنها ستملك بسبب تركيبة النظام الديمقراطي القوة لإجبار الحكومة على الاهتمام بما يريدونه وليس بما تريد الحكومة تحقيقه، كما يفترضون أيضا أن وجود المعارضة في الحكم سيجعلها تصارع لجعل الحكومة في تذكر دائم لمصالح الناس عندما تسعى لاتخاذ قراراتها السياسية بناء على مبادئها أو بناء على المصالح الشخصية لأفراد الحكومة.
لكن هذا الافتراض يفشل في كثير من الأحيان، لأن الناس تتعاطف أحيانا مع الشعارات بشكل مبالغ فيه، ظنا منها أن الشعارات في حد ذاتها ستعالج مشكلاتهم وتضع لهم الخبز على الطاولة _ كما حصل في حالة حكومة حماس _ أو لأن الحكومة تنجح في إخفاء مبادئها الأيديولوجية عن الناس أثناء الانتخابات ثم تضرب بها عرض الحائط _ كما حصل في حالة حكومة بوش _ أو لأن الحكومة تقنع الناس بأن هذه المبادئ هي “عقيدة” لا يمكن التخلي عنها مهما كان الثمن، كما حصل في حالة حكومة نجادي.
الحكومة في هذه الحالة أمامها ثلاث خيارات، كما يقول المؤلف البريطاني وودهاوس، في كتابه “من أجل حكومة جيدة: الوزراء وموظفو الخدمة المدنية والقضاة” والذي ناقش بتفصيل حالات تناقض الإدارة مع السياسة والمبادئ، خيار تفضيل السياسة والمبادئ على المصلحة العامة، وخيار تفضيل المصلحة العامة على السياسة، وخيار الخروج من الساحة.
هناك خيار رابع نفذ في عدد من الدول _ غالبا ذات النظام الفيدرالي _ حيث يتم فيها زيادة صلاحيات الإدارة المحلية للمدينة أو المحافظة لتشرف على كل الشؤون الداخلية بما في ذلك التعليم والصحة والشرطة والعمل ويكون لها استقلاليتها المالية والانتخابية بعيدا عن تأثير السياسيين وأصحاب الأيديولوجيات بينما تتولى الحكومة إدارة شؤون الدفاع والخارجية والأمن الوطني بشكل خاص.
أعتقد جازما أن المنطقة العربية مقبلة على المزيد من الحكومات الأيديولوجية، وفهم هذه القضايا درع ثمين للشعوب العربية إن كنا نريد تحسين أوضاعنا التي لا تزداد إلا ترديا!!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية