كان إعدام صدام حسين حدثا تاريخيا تناوله الناس من زوايا مختلفة وأثير الكثير من النقاش حوله، ولكن واحدا من أهم الملاحظات في نظري أن هذا الإعدام والنقاش حوله مثل نقطة ذروة في تصاعد حرارة “الحساسية المذهبية” حين صار كل فريق يوجه أصابع الاتهام نحو الفريق الآخر بغضب شديد، فبينما تعلن مجموعة غضبها اللامحدود على الطريقة والتوقيت التي تم بها إعدام صدام، ترى المجموعة الأخرى أن هذا الغضب تأييد لممارسات صدام الإجرامية عندما كان حاكما للعراق.
هذه التصدعات الداخلية الحادة في العراق ترافقها تصدعات مماثلة في البناء الفلسطيني حيث تسيل الدماء بدون سبب واضح للملأ العربي الذي طالما اعتبر القضية الفلسطينية قضية جوهرية لهم.
هناك أيضا التمزق في الكيان اللبناني والذي ربما قضى تماما على استقرار المؤسسة السياسية في لبنان.
لماذا تتسارع وتيرة الصراع الداخلي في الدول العربية؟ هل هي _ كما يقول البعض _ مؤامرة من الغربيين الذين اكتشفوا فجأة هشاشة البناء العربي وقرروا استخدام ذلك لتدميره قبل أن يتدخلوا لبناءه بشكل جديد؟ هل هي طبيعة العرب العاطفية التي تجمعهم وسرعان ما تجعلهم يغضبون فيصفع كل منهم الآخر؟ هل هي سنوات من الغضب المكتوم الذي انفجر فجأة في كل مكان؟ والسؤال الأهم بين كل الأسئلة التي يثيرها هذا الوضع القاسي والحزين: هل سيستمر تصاعد الخلافات الداخلية في الارتفاع حتى يأكل الأخضر واليابس أم أن صوت العقل سيطغى ويهدئ المتحاربون من روعهم مراعاة لمصالحهم ومصالح الآخرين؟
لو سألت هذا السؤال من حولك، وأنا أقترح ذلك لأنها قضية يجب أن تثار ولأن تباين الآراء سيكشف لك مدى تعقيد القضية، ستجد إجابات كثيرة، وأنا شخصيا أعتقد أن كل الإجابات صحيحة، فعوامل عديدة تضافرت لتصل بنا لهذا القاع التاريخي، فطبائعنا هشة التماسك، مستعدون للغضب والقتال في أي لحظة، لا نبالي بالدمار الذي يأتي بعد الحرب إذا كانت لصالحنا، ولدينا ميل غير عادي لكره “الآخر” أيا كان نوعه، كما تحمل كل فئة عرقية أو مذهبية أو طبقية صورا سلبية حادة عن الفئات الأخرى.
يضاف إلى ذلك، أن العالم بدأ يتعامل معنا بعد 11 سبتمبر على أننا مصدر للقلاقل، وأن يجب وضع حد لذلك.
هناك لا شك من يرقص على جراحنا، ولكننا بالتأكيد أكثر من يعشق صناعة الجراح، ونحن معرضون للمزيد من الدماء والظلم والصراعات الداخلية إذا وقفنا متفرجين بدون أي مبالاة.
إذا أردنا للنار أن تنطفئ ولا تمتد، فعلى كل فرد منا أن يتعامل مع هذه القضية بجدية عالية أملا في أن نحدث أثرا.
إن الحل الوحيد في نظري لمنع الصراعات الداخلية هي الإيمان بالتعددية واحترام الآخرين مهما اختلفت مذاهبهم وجنسياتهم واحترام الإنسانية التي ينتمون إليها.
وبقدر ما يبدو هذا الحل تقليديا، وتكرارا لكتابات أخرى سابقة، فهو يبقى الحل الوحيد للأزمة، وهو في نفس الوقت الحل الذي يرفضه الجميع لأن أحدا لا يريد إفساح مكان لـ”الآخر” إلا مجبرا تحت تهديد القوة.
هذا ينطبق على المذاهب وعلى الاتجاهات داخل المذاهب وينطبق على الإسلاميين الذين يريدون دولا على مقاسهم، كما ينطبق على الرافضين للإسلاميين الذين يريدون مجتمعات خالية من التأثير الديني.
التعددية هي الحل، ولا يمكن تطبيق ذلك بإلقاء الخطب وكتابة المقالات، بل بإيجاد إطار قانوني يحمي التعددية ويعاقب من ينتهك حرماتها.
التسامح هو الحل ونقل الخلاف إلى المستوى النخبوي الراقي أساس في استمرار حياتنا بشكل مدني.
بدون ذلك سنتساقط فئة بعد الأخرى بينما يصفق كل المستفيدين من حماقاتنا.
لقد عانى الغربيون عبر قرون من نفس المشكلة التي عانينا منها، وعانى الآسيويون من هذه المشكلات كذلك، ولم يستطيعوا إيجاد حل إلا قبول التعددية.
إذا أردنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون فعلينا أن نتقبل هذه الحلول، وإذا رفضنا ذلك فقد يعني هذا فعلا أننا سنخوض هذه القرون المظلمة كما خاضوها.
عانت أمريكا من العنصرية والتمزق الفئوي ثم جاءت القوانين لتجبر الناس على احترام الأعراق الأخرى حتى لو أثر ذلك سلبيا على التركيبة السكانية للدولة وعلى امتيازات الأغلبية وحتى على مصالح الدولة التي أعطت الوظائف والمميزات لمن لا يستحقها فعلا لإثبات التسامح وتطبيق القانون فقط.
لولا ذلك لربما رأينا أمريكا تخوض في نفس بركة الدم التي نخوضها اليوم.
نحتاج للعقل، الذي يعطي منطقا للأشياء ويفكر، ونحتاج لقتل عواطفنا لأننا أثبتنا عبر الأيام أننا نحمل عواطفا لا تمشي إلا نحو الهاوية.
ماذا بعد مقتل صدام؟ هذا يعتمد علينا، فهو إما المزيد من الفرقة والتصدع أو فرصة أخرى لمعالجة خلل تاريخي في العقل العربي.
يا ويلنا إن لم نفكر ونتسامح!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية