تحولت وسائل الإعلام على اختلافها عبر الزمن لتعتمد في طريقة تمويلها على الإعلان، وصار من الصعب على وسيلة إعلامية أن تقوم بدورها الرقابي على الوسائل الإعلانية لأن هذا معناه الصراع مع المعلن الذي يملك قوة المال الذي يمول الصحيفة.
لعلاج هذه المشكلة، جاء رجل أمريكي من أصل لبناني وهو رالف نادر، بفكرة معالجة هذه المشكلة التي بدأت في السبعينات الميلادية تقوى بشكل حاد في أمريكا وذلك من خلال جمعيات حماية المستهلكين، بحيث تقوم الجمعية بمتابعة الشركات وفحص منتجاتها ورسائلها الإعلانية والمقارنة بينها وتحذير الناس من مشكلاتها وأخطارها وتوضيح الجوانب الجيدة فيها وجمع الشكاوى من الناس نحو منتج معين أو نحو شركة معينة والتحقيق فيها وإعلانها وإجبار الشركات على تحمل مسؤوليتها نحو المجتمع أخلاقيا وتجاريا.
نجح رالف نادر، نجاحا باهرا، وأثبت للأمريكيين أن جمعيته عنصر أساسي في حمايتهم من أخطاء الشركات ومن الجشع التجاري ومن شبح التسويق الذي يجعل القبيح جميلا والضار نافعا، ولذلك يعتبر رالف نادر، من أكثر الشخصيات الأمريكية مصداقية حتى يومنا هذا وله شعبية عارمة في أمريكا، وهو يرشح نفسه كل 4 سنوات للرئاسة الأمريكية باسم حزب الخضر الذي يرأسه، ويحصل على نسبة لا بأس بها من الأصوات مقارنة بحجم حملته الانتخابية “حملته محدودة لأن الشركات لن تتبرع لعدوها اللدود طبعا بينما تتبرع للجمهوريين والديمقراطيين!”.
لم يكن عمل رالف نادر سهلا، فقد اضطر لإقامة مختبرات ضخمة ومراكز أبحاث، وحتى تتخيل المسألة فإن تقريرا بسيطا عن سلامة عجلات السيارات تتطلب اختبارات مكثفة حتى تظهر نتائج دقيقة، وهذه الاختبارات تكلف ملايين الدولارات، فما بالك إذا كان ينتج عشرات التقارير كل شهر في مختلف القضايا الاستهلاكية.
لقد استطاع نادر أن يمول هذه التكاليف من التبرعات الخيرية التي تصله كل عام من أفراد الشعب الأمريكي والذين آمنوا عبر الزمن بالأهمية القصوى لمثل هذا الجهد لحماية مجتمعهم من شبح سيطرة القطاع الخاص.
في بعض الدول التي لم تتمكن من إقامة مثل هذه الآلية الضخمة، تم الاكتفاء بجمعيات أو إدارات حكومية لتسجيل شكاوى الناس ضد الشركات الكبيرة والصغيرة وضد المنتجات والخدمات بعد التحقيق فيها، وهكذا فعندما تريد التعامل مع شركة نقل أمتعة أو شركة مقاولات أو أردت شراء منتج معين أو الأكل في مطعم معين، تتصل بهذا المكتب فيخبروك عن الشكاوى التي جاءت ضد الشركة وإلى أين وصل التحقيق بشأن هذه الشكاوى وهل ثبت بطلانها أو صحتها، ويتركون القرار لك.
في مجتمعاتنا النامية حيث عشرات الشركات تنشأ كل يوم، وحيث تأتينا شركات ومنتجات من كل مكان في العالم نحتاج لمثل هذا النظام ولمثل هذه الجمعيات، ليس فقط لحماية الناس، ولكن أيضا لقضية هامة جدا وهي أن هذا سيساهم في رفع مستوى المنتجات والخدمات ويضغط على الشركات لرفع مستوى النوعية لديها، وذلك لأن سوقنا سوق صغير في النهاية، والمؤسسات التجارية فيه مازالت ناشئة، وما زالت غير منظمة، وكلاسيكيات خدمة العملاء لا زالت في مرحلة أولية، وحتى الآن لا توجد أفكار عملية في ظل النظام الاقتصادي الحر لمعالجة هذه المشكلات إلا من خلال آليات “حماية المستهلك”.
بقي أن أشير أن جمعية رالف نادر، وكل الجمعيات المماثلة الأخرى لم تنجح تماما في التفوق على الشركات، فمستوى السلع ينخفض كل يوم، ولو قارنت سلع اليوم بسلع الثمانينات في الجودة لرأيت فرقا كبيرا، وذلك لأن الشركات يوما بعد يوم تزيد من ميزانيات التسويق على حساب ميزانيات حماية الجودة، لأنها اكتشفت أن التسويق أهم من الجودة في تحقيق المبيعات الجيدة، أو هكذا يخيل لها!
هذه القضية ليست تافهة، فهي محور رفاهية الحياة التي نعيشها، وهي أساس في تطوير المدنية بشكل عام، والكثيرون من الكتاب والمفكرين يعتقدون أن فشلنا في علاجها سيكون له عواقب وخيمة مستقبلية على الشعوب.
الشركات قد تكون الحاكم الجديد للعالم!!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية