يمثل النقاش الدائر حول حرب لبنان حالة مميزة في تكون الرأي العام العربي، فبغض النظر عن أن الجميع يشعرون بالدم يغلي في رؤوسهم بسبب الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في لبنان وغزة، إلا أن النقاش كان دائما حول حزب الله وما إذا كان ما فعله صمودا ومقاومة أم مغامرة ورميا بالنفس إلى التهلكة.
هذا النقاش غير عادي في قضية تدخل فيها إسرائيل طرفا، ففي السابق كان أغلب الرأي العام يقف بلا نقاش خلف كل معركة ضد إسرائيل، أيا كان نوعها وأيا كانت نتائجها، وربما انتهت معظم هذه المعارك بخسارة العرب إلا أن هذا لم يعن أبدا إحداث مراجعة أو تردد في الرأي العام العربي.
نحن الآن بين ثقافتين، ثقافة كلاسيكية تؤمن باستمرار الصراع بأعنف ما يمكن مع إسرائيل، وأخرى ترى أن وضع إسرائيل العسكري ودعم المجتمع الدولي لها ووضع البيت العربي الداخلي لا يؤهل العرب للاستمرار في معركتهم، وهذا يعني أن يبحثوا عن مسارات أخرى في العلاقة مع الدولة العبرية.
بمعنى آخر، نحن بين فلسفتين سياسيتين يتجادل حولهما الرأي العام، فلسفة “المثالية السياسية” وفلسفة “البراجماتية السياسية”.
المثاليون السياسيون دائما يفكرون فيما ينبغي فعله بناء على المبادئ والقيم التي يعتنقونها، أيا كانت هذه المبادئ، والبراجماتيون يفكرون فيما يلزم عمله بناء على الأهداف والمصالح التي سيحققونها.
المثاليون مستعدون للخسارة ما دامت المبادئ تجد طريقها للتنفيذ، والبراجماتيون يريدون دائما أن يحققوا أهدافهم حتى لو كان هذا يعني بعض التنازلات عن المبادئ.
والبراجماتية مرتبطة أيضا بـ”الواقعية السياسية”، أي الاعتراف بالواقع، فلو كنت مهزوما تعترف بهزيمتك، ولو كنت تحتاج للسلام مع العدو، تعلن ذلك بلا محاولة لحفظ ماء الوجه، وهناك أنواع من البراجماتية، هناك البراجماتية المتطرفة والتي تستعد للتنازل عن كل المبادئ في سبيل المصالح، وهناك البراجماتية المعتدلة التي تستعد للتنازل عن بعض المبادئ دون التنازل عن الأساسيات.
نقاشنا الحالي هو نقاش بين تلك الفلسفتين، تسمع فريقا يتحدث عن المبادئ وآخرا يتحدث عن المصالح، وقد يتخيل القارئ أن الالتزام بالإطار الإسلامي يعني أن يكون الإنسان مثاليا في رؤيته السياسية، ولكن عندما تتأمل التاريخ الإسلامي تجد نسبة لا بأس بها من البراجماتية، فالرسول صلى الله عليه وسلم، وقع صلح الحديبية رغم أن جزءا من الاتفاقية مخالف للمثالية إلى درجة أن الصحابة غضبوا من الرسول، عليه الصلاة والسلام، والرسول رحب بخالد بن الوليد، عندما عاد منسحبا من غزوة مؤتة رغم أن أهل المدينة استقبلوهم بعبارات الاستهجان والرفض، وحتى الإمام علي بن أبي طالب، رفض معاقبة قتلة عثمان عليه السلام، وأصر على قراره البراجماتي إلى درجة أنه ذهب لمعركتين من أجل قراره هذا، معركة الجمل ضد السيدة عائشة رضي الله عنها، ومعركة صفين ضد معاوية بي أبي سفيان، وهناك أمثلة أخرى كثيرة جدا لا محل الآن لذكرها.
لقد سادت رؤى المثالية السياسية عالمنا العربي لأنها تتوافق مع مشاعرنا الغاضبة، مع الإحباط الشديد الذي نعانيه، مع الألم الذي لا ينتهي بسبب الضعف والهزيمة، ولأن المثالية تعني الانطلاق بدون تفكير، بينما البراجماتية تتطلب العقلانية، وهذا يتناقض مع العواطف التي تسيطر على القلوب والمشاعر.
وإذا كنت تلتمس العذر للأجيال التي عاشت هزيمة النكبة في عام 1967، فإن الأجيال الجديدة بدأت تميل للبراجماتية والواقعية لأنها لم تمتلئ بنفس المشاعر الغاضبة والرغبة في الانتقام التي تسود الأجيال الأكبر عمرا، وهذا ما يفسر قبول الكثيرين في التسعينات والأعوام الماضية بمضي عملية السلام.
الهجمة الأخيرة على لبنان وتحرك المجتمع الدولي بقلب بارد رغم الضحايا التي تتساقط سيحدث موجة جديدة من الغضب في القلوب التي صدمت بهول العنف الإسرائيلي، وسيتحول الكثير من الناس ليصبحوا مثاليين يحلمون بالمقاومة واسترداد عزتهم وكسر شوكة العدو والانتقام للضحايا الأبرياء حتى لو كان ذلك غير ممكن وغير واقعي في ظل ظروفنا الحالية.
لقد خسرت إسرائيل والدول الغربية لأنها كسبت شريحة واسعة جديدة من الأعداء في العالم العربي، وخسر العرب بتناقص عدد الذين يستطيعون تحمل أعباء العقلانية والبراجماتية!
“رحم الله كل الضحايا الأبرياء، ورزق ذويهم الصبر والسلوان”
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية