كانت هناك نظرية لدى بعض الأيديولوجيين الأمريكيين الحالمين بتأسيس عالم يشبه أمريكا والذين وقفوا مع الرئيس بوش، في حربه ضد العراق على هذا الأساس.
كانت لديهم نظرية بأن انتزاع الديكتاتور يعني انتهاء الكارثة وبداية تنفيذ الديمقراطية على أساس أن الشعوب المقهورة ستنطلق فورا نحو الديمقراطية حتى يتوفر لها ذلك.
عند قراءة هذا المقال يكون الحكم على صدام قد صدر، وبذلك تتم الحلقة الأخيرة من مسلسل “القضاء على الديكتاتور” و”نشر الديمقراطية”، حسب نظرية الحالمين الأمريكيين.
لكن هؤلاء المفكرين لم يحسبوا حساب التأثير طويل المدى للديكتاتور، ولم يروا ما تعلمناه عبر السنين في منطقتنا العربية، وهي أن الديكتاتور في الحقيقة يخلق مناخا من حوله يضمن له الاستمرار عبر السنين، مناخ يؤيده ويبرر قراراته، كما يولد آلافا من الديكتاتوريين الصغار الذين يشبهونه في الطباع وينفذون سياساته تماما كما لو كان هو في كل محل صناعة قرار.
صدام حسين، كان واحدا من أفظع الديكتاتوريين الدمويين العرب في العقود الأخيرة، وقصصه لا تحتاج لتكرار، وكل أولئك الذين يبررون له أفعاله ويمدحونه ويتألمون له هم ممن انطلت عليهم خطته لبناء القاعدة الشعبية التي تدعمه، سواء كان ذلك عن طريق خطابه السياسي المعادي لأمريكا وإسرائيل أو عن طريق الأساليب الأخرى.
لكن ذهاب صدام حسين، لا يعني أن العراق قد تنفس جو الحرية، فهناك ما زالت بيئة قاسية صنعها صدام والديكتاتوريين الصغار الذين تبعوه، وهذه البيئة تحتاج عشرات السنين من العمل الجاد المتواصل والإرادة الشعبية الجماعية المشتركة حتى يمكنها أن تتخلص من آثاره السلبية عليهم.
دعونا أقولها بصراحة وبقدر أقل من المجاملة المتبعة، إن ما يحدث في العراق دموي جدا لا تبرره الاختلافات الطائفية أو السياسية أو المطامع الشخصية.
تستيقظ المدن العراقية كل يوم على قصص بشعة، جثث مشوهة، رؤوس مقطوعة، أسر تختطف فتياتها وأبناءها، انفجارات تتوالى، تعذيب، اختطافات، الخ.
كل هذا يحصل من المتطرفين في كل فريق متحارب، والمصادر المتواترة صارت تؤكد بشكل ليس فيه شك أن الجميع متورط في هذه القصص المأساوية، المتطرفين في كل الفئات بلا استثناء.
التورط ليس فقط بالقيام بهذه الأعمال الوحشية، بل من خلال تقديم الدعم اللوجيستي لها والتستر على فاعليها، وتقديم المبررات لهم رغم صنائعهم الفظيعة.
إن أكثر ما يستفزني في هذا الوضع غير العادي أن هناك على الضفة اليمنى من يقف مدافعا عن الجريمة البشعة على أساس أنها حرب ضد الأمريكيين رغم أن الضحية هم العراقيين، وهناك على الضفة اليسرى من يقف مدافعا عن الجريمة البشعة المضادة على أساس أنها حرب ضد بقايا البعثيين والإرهابيين.
إنه تبرير مستمر للجريمة والديكتاتورية بمسوغات أقل ما يقال عنها أنها تضع الفكرة والهدف فوق حياة الأبرياء.
صدام قد يموت بأي طريقة، ولكنه سيبقى حيا من خلال آلاف الديكتاتوريين الذين صنعهم في العراق وما زالوا يطبقون أفكاره حتى وهم يخرجون في الشوارع مبتهجين بموته.
صدام لن يموت وسيبقى فكره حاكما للعراق حتى يدرك العراقيون أن عليهم أن يؤمنوا بالحرية وكرامة الفرد والتعددية وأن يرفضوا رفضا عدائيا قاطعا كل من يريد استخدام الجريمة البشعة لفرض رأيه على الآخرين.
هناك خلافات فكرية ودينية وسياسية بين فئات في معظم الدول العربية، ولكننا لا نستيقظ كل يوم على رؤوس مقطوعة وجثث مشوهة وجموع من الشعوب تصفق للجريمة.
على العراقيين العظماء الذين أدهشوا العالم عبر التاريخ بحضارتهم وإنجازاتهم وعظمتهم أن يتخلصوا من أشباه صدام، الذين يمشون بين الصفوف كل يوم مشوهين اسم العراق ومدمرين حضارته وتاركين الوطن في حال أليم لا يمكن لروح بريئة أن تتقبله بأي شكل من الأشكال.
لقد فشل الأيديولوجيون الغربيون في توقع آثار الديكتاتورية في حياة الشعوب.
الديكتاتور يدمر الكرامة ويدمر الإيمان بالحياة ويدمر الإيمان بالآخر، ويجعلك تبحث عن حياتك ومصلحتك فقط مهما كان الثمن. الديكتاتور لا يرحم ويمتص الرحمة من الأرواح التي تحيط به.
التخلص من صدام حسين، كان الحلقة الأولى من مسلسل إعادة إحياء العراق، وبغض النظر عن الأسلوب الذي تم به ذلك والثمن الفادح الذي دفعه العراق، فإن التخلص من صدام، خير للعراق بلا شك من بقاءه لسنين أخرى يولد المزيد من الديكتاتوريين ويسمم الأجواء المحيطة به.
لقد كرهت صدام قديما لما سمعت قصص تخلصه من أعدائه وأقاربه، ثم قصص اضطهاده للشعب العراقي، واستخدامه الاسلحة الكيماوية بلا رحمة، واضطهاده للكويتيين وقصفه الرياض بالصواريخ، ولم تخدعني يوما خطاباته الزائفة وشعاراته البراقة، ولن أشعر بذرة تعاطف حين أراه يموت، فالنفس بالنفس، ولكنني سأبتهج فقط عندما يتخلص العراقيون من روح صدام التي تسري بينهم!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية