يتحدث الكثير من الكتاب والمثقفين العرب عن الحرية والديمقراطية وعن التطوير السياسي وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وحرية التعبير وغيرها، وهذه كلها قيم عالمية اتفق الناس على أهميتها ودورها الحيوي في تطوير أنظمة المجتمع.
لكن ما لا ينتبه له الكثير من هؤلاء المنادين بتطبيق هذه القيم في البلاد العربية هو أن هذه القيم بشكل عام لا ينجح تطبيقها ما لم تلق دعما شعبيا من “الجماهير”، ولو رجع هؤلاء لتاريخنا الحديث لوجدوا أن أوروبا ضحت بمئات الآلاف من الأرواح _ بعضهم من العلماء والمفكرين _ وضحت بالكثير من القيم _ بما فيها بعض قيم الدين المسيحي والقيم الاجتماعية الأساسية حينها _ ودخلت الكثير من الحروب الشعبية، ونشر فيها ما يزيد عن 200 ألف كتاب لدعم قضايا الثورة الفرنسية، وكانت النتيجة تحقيق النظم الديمقراطية والاجتماعية بشكلها الحالي.
في رأيي الشخصي، العالم العربي ليس مستعدا لجزء بسيط من هذه التضحيات، والسبب هو أن هذه القيم لا تمثل محورا أساسيا لما يريده العرب فعلا.
نعم الكثيرون في العالم العربي يطمحون للتقليل من الفساد الإداري، ويتمنون مجتمعات ليس فيها ظلم، والبعض يحلم باليوم الذي يقول فيه شيئا لم يسمح له من قبل بقوله، لكن هذه الأمور لو تحققت بدون “ديمقراطية” وإنما من خلال “إمام عادل” لحلت المشكلة ولبقي المنادون بـ”الحرية” أقلية لا يحسب لها حساب.
لو أجريت حوارا عميقا مع نسبة عالية من العرب، لوجدت أنهم يحلمون بـ”هارون الرشيد”، الخليفة “الصالح” الذي يحج سنة ويغزو سنة، والذي تمتد أذرعه لتصل “أينما تمطر الغمامة”، وهو رجل لم يعرف عنه “الديمقراطية” بدليل مذبحة البرامكة.
آخرون سيحلمون بـ”صلاح الدين الأيوبي”، الرجل الذي حمل سيفه وقهر الأعداء معركة بعد معركة وأعاد للمسلمين “عزتهم” وخلصهم من “ذل” الأعداء، وهؤلاء الحالمين لن يعرفوا شيئا عن تاريخ الإصلاح المدني لصلاح الدين.
آخرون ربما يحلمون بابن تيمية، العالم الذي حفظ علوم الشريعة و”صدع” برسالة الحق وقاوم المغول وتحمل ظلم الحكام.
لكنه من النادر جدا أن يتحدث أحد عن شخصيات يرونها قدوة في الإصلاح الإداري أو الاجتماعي، أو إعطاء الحرية لكل من هب ودب أن يقول ما يشاء، أو التركيز على إكرام المرأة ومنحها حقوقها.
ولا أظن أن الكثيرين يتذكرون شخصية عربية اهتمت بحقوق الأقليات أو بنشر حرية التعبير أو غيرها من القيم العالمية.
وحتى لا نترك الأمور لاجتهادي الشخصي، هناك مناهج علمية متميزة تساعد على توضيح مثل هذه الأمور بشكل دقيق، ونحن نحتاج لتطبيق هذه المناهج حتى نصل لقناعة مشتركة تشرح لنا ماذا يريد العرب وكيف يريدون تحقيق ما يريدون.
أحد هذه المناهج هو منهج تحليل المخيلة أو موضوعات الخيال Fantasy Theme Analysis، وهو منهج قدمه عالم أمريكي اسمه بورمان Bormann، في مطلع السبعينات الميلادية، حيث يعنى هذا المنهج بتحليل النصوص الصادرة عن شخص ما أو عن مجموعة صغيرة من الناس، كما طبق هذا المنهج على مجموعات كبيرة من الناس من خلال تحليل نصوص مجموعات صغيرة مختارة، والنصوص هنا تشمل الحوارات الشخصية والخطب والنصوص الأدبية والمقالات والمذكرات الشخصية.
لو قمنا بتحليل نصوص مختارة عشوائيا لمجموعات متنوعة من “الأمة العربية” و”الأمة الإسلامية” وركزنا على قضايا التخلف و”الخروج من المأزق” والحرية وغيرها، لربما فوجئ النخبة لدينا بأن العرب “يحلمون” بشكل مختلف تماما عن ما يدعيه المثقفون، أو عما يدعيه بعض الناس من حبهم للحرية بناء على تقليد غربي بحت.
إن فهمنا لأنفسنا أساس لإصلاح عالمنا العربي ومعالجة قضايانا، وإذا كنا نصر على أن الحق يكمن في تطبيق قيم معينة، فلربما كان الأهم من حشد الجهود “السياسية” لتطبيق هذه القيم هو إقناع الناس بهذه القيم حتى تصبح جزءا من أحلامهم اليومية، وجزءا من أحاديثهم، وأساسا ضمن قيمهم التربوية التي يعلموها لأطفالهم.
إذا لم نفعل ذلك، وفرضنا هذه القيم على الناس فرضا، حتى لو كانت هذه القيم صحيحة، فقد يتساقط اهتمام الناس وحماسهم لهذه القيم، مع أول أزمة، تماما كما انتهى اهتمام الناس بقيم حزب البعث في العراق مع أول أزمة بالرغم من 35 سنة من التلقيم القسري وجهود الإقناع وغسيل الدماغ والمناهج التربوية المزيفة.
الإصلاح يبدأ بحلم جماعي ففكرة فجهد وعرق ومعاناة وفكر فابتسامة بتحقيق الحلم ثم المزيد من الجهد والعرق والمعاناة والفكر للحفاظ على الحلم.
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية