أثارت مبادرة الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، بسحب سفيره من إسرائيل الكثير من الفرح في الأوساط العربية التي أعجبها أن يأتي غريب من أقصى العالم ليتعاطف معهم بينما ما زالت الدول العربية غير قادرة على أخذ مبادرة مثيلة، كما طرح القرار أسئلة كثيرة في أذهان العقلاء عن السبب الذي يدفع دولة في أقصى الأرض لا نعرفها ولا تعرفنا أن تقف بجانبنا، وما آثار هذا القرار عليها أو علينا وغير ذلك من الأسئلة التي تتجاوز مجرد التهليل العاطفي السطحي.
لكن الكثيرون لا يعرفون أن بيننا وبين اللاتينيين الكثير من العناصر المشتركة، التي تجعلهم مرشحين ليكونوا أصدقاء حميمين للعالم العربي، ليس أقلها العاطفة الحميمية والقيم العامة بالإضافة إلى أمر هام جدا وهو المعاناة من سيطرة الأخ الأكبر.. أمريكا!
ولعل ما يؤسفني دائما أن العالم العربي بقياداته السياسية والفكرية بعيدون عن قراءة تجربة أمريكا اللاتينية، رغم ما في هذه التجربة من الدروس لعالمنا العربي بسبب تشابه ظروف العرب مع اللاتينيين من النواحي الاقتصادية والثقافية وظروف النمو السياسي.
لقد كان حظ أمريكا اللاتينية أن تقع بالقرب من المارد الأمريكي الذي قرر أن يرفع أعلام نفوذه على كل المرتفعات اللاتينية، وبالفعل استطاعت أمريكا عبر 40 سنة من الجهود السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وحتى الأكاديمية والتبشيرية أن ترفع أعلامها على الدولة بعد الأخرى، حتى صارت أمريكا اللاتينية _ باستثناء كوبا فيما يبدو حتى الآن _ مدينة بالولاء الكامل لواشنطن.
حملت أمريكا شعارين أساسيين في حملتها خلال هذه السنوات: “مكافحة المخدرات” و”استبدال الشيوعية بالديمقراطية”، وبالفعل مضت المسيرة، وسقطت بعض الحكومات اللاتينية بمواجهة مباشرة مع أمريكا، بينما سلطت أمريكا بعض الدول على بعضها انتهت بانتصار حلفاء الأمريكيين، واستخدمت أحيانا قوى المعارضة والتمرد داخل الدول، بينما ذهب رجال الأعمال الأمريكيين لدول أخرى بأموالهم لتصبح تحت الرحمة الاقتصادية للشركات الأمريكية.
في أحيان أخرى، قام الجيش الأمريكي أو الاستخبارات الأمريكية بإرسال رجالها لهذه الدول لملاحقة عصابات المخدرات، وكان يتم القضاء على العصابات رغم آلاف الأبرياء الذين يموتون أحيانا على الطريق، وكان يتم إنهاء العصابات وتبقي أمريكا رجالها في تلك الدول “للتأكد بأن هذه العصابات لن تعود من جديد”.
المثير للدهشة في هذه التجربة أمور كثيرة منها أن هذه الحملة الضارية لم تتوقف، رغم تبدل الحكومات بين صقور وحمائم، ورغم تغير الظروف الاقتصادية لأمريكا، ولم يكن أحدا من الرؤساء الأمريكييين يجرؤ على إيقاف الحملات على الدول الشيوعية التي تناصر العدو السوفييتي اللدود، كما لم يرغب أحد في إيقاف حملات محاربة عصابات المخدرات الشريرة، وأخيرا _ بعد سقوط الشيوعية وضعف العصابات _ توافق الجميع على أهمية نشر الديمقراطية ودعمها غير المحدود في دول أمريكا اللاتينية.
هل تحققت الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية؟
الغريب أن الجواب نعم ولا.
نعم هناك انتخابات ومرشحون ومؤسسات برلمانية ورؤساء يتبدلون كل عدد من السنوات، لكن كل المشكلات التي تبرر بها أمريكا حملاتها السياسية لم تتغير.
ما زالت أمريكا اللاتينية تعج بالفساد الإداري وسيطرة مجموعة قليلة من الأشخاص على مقاليد الأمور _ حتى لو لم يكونوا في الصورة _ وما زالت تعاني من الطبقية القاسية، وما زال هناك أناس فوق القانون، وأناس “يضطهدهم القانون”.
حتى الإعلام الذي يدعي التمتع بالحرية ما زال ممنوعا تماما من المساس بأصحاب النفوذ، وصارت أمريكا ملجأ للعشرات من الصحفيين اللاتينيين الذين تلاحقهم العصابات التابعة لأصحاب النفوذ بعد أن كتبوا خبرا أو مقالا يهاجم هذا او ذاك.
ولماذا أصرت أمريكا إذن على تطبيق الديمقراطية؟ هل كانت مجرد شعار أخلاقي يبرر حملاتها عبر السنين أم أنها فشلت في مهمتها “الأخلاقية”؟
الجواب صعب جدا، حيث لا يعلم أحد لماذا تصر أمريكا على “الديمقراطية” وتهمل الكثير من القضايا التي تحقق صالح الشعوب، وتؤمن لهم الرخاء والأمان.
الكثيرون محتارون لماذا تركز أمريكا على “حقوق الإنسان” بينما أساطيلها تجوب العالم تقود حربا بعد حرب.
والجواب كما يراه البعض هو أن أمريكا تريد تحقيق إطار أيديولوجي يسمح لها باختراق النظم السياسية للعالم بصيغة معينة تتحقق فقط من خلال النمط الديقراطي.
هل “مشروع الشرق الأوسط الكبير” وحروب ما بعد 11 سبتمبر هي تكرار للتجربة الأمريكية في أمريكا اللاتينية؟
قد يكون الجواب ممكنا بتأمل تجربة اللاتينيين مع إضافة البهارات “الإسرائيلية” عليها، وما أقساها من إضافة!!
* نشر في مجلة المرأة اليوم الإماراتية