اكتسبت كلمة “الإصلاح” سمعة سيئة في السنوات الأخيرة لأنها ارتبطت بالتغيير الداخلي المفروض بناء على أجندة سياسية خارجية، ورغم أنه لا عيب في أن تأتي الأفكار من “الخارج” إلا أن الجهات الخارجية بطبيعتها لديها أهداف محددة غير معلنة تريد تحقيقها، ولا شيء على الإطلاق يضمن أن تتطابق هذه الأهداف مع حقيقة ما يحتاجه المجتمع ويتناسب مع تطوره التاريخي.
كان هذا أحد أهم الأسباب التي دعت الكثيرين لرفض مشاريع “الإصلاح” الدولية التي يطير من أجلها وزراء الخارجية من دولة إلى أخرى وترصد من أجلها الميزانيات.
ولعل ما يؤكد أن أجندة “الإصلاح” هي مجرد “لعبة سياسية” أنها تنطلق من نفس المبادئ السياسية الأخرى في العلاقات الدولية، فنجد مثلا أن الطرف الآخر يمارس نفس طريقة الضغوط وعدم الرضى بما يحقق والجاهزية للمطالبة بالخطوة التالية ورمي الأوراق الواحدة بعد الأخرى، يمارس هذا في دفعه لـ”الإصلاح” كما يمارسه في أي مطالبات سياسية أخرى.
نجد على سبيل المثال أنه بالرغم من البدء الفعلي في مشروع الانتخابات من خلال الانتخابات البلدية في المملكة العربية السعودية، خرج الطرف الآخر معبرا عن الرفض وعدم الرضى لأن النساء لم تشارك، وهذا يؤكد أن هذه الجهات لا تراعي التطور التاريخي للأمور بقدر ما هي تجهز ورقتها الثانية للضغط، حيث يعرف هؤلاء بالتأكيد أن أمريكا نفسها لم تبدأ فيها النساء بالتصويت في الانتخابات إلا بعد أكثر من قرن من بدء العملية الانتخابية.
هذه مشكلة “الإصلاح” كمصطلح، وإلا فإن كلمة الإصلاح مرادفة تماما لمصطلحات “التطوير” و”التنمية”، والدول العربية اعترفت منذ زمن طويل بأنها دول نامية وتحتاج للتطوير، وفي معظم هذه الدول خطط تنموية ووزارات تنمية، بل إن كلمة تنمية تكررت عبر السنوات في التراث السياسي العربي حتى صارت كلمة مملة تدعو للتثاؤب والنوم.
الدول العربية جميعها بحاجة لـ”التغيير”، والتطوير الدائم، وبحاجة أن يكون لديها آليات تجتذب الأفكار الجديدة وتشجعها وتعمل على تطبيقها، وهناك مشكلة عربية عامة في هذا الصدد تجعلنا نضحي بكثير من الأفكار ذات الأثر الإيجابي والضخم على المجتمع في مختلف المجالات.
كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن أمارة دبي وكيف أنها بيئة إبداعية تتميز بطرح الأفكار الجديدة الواحدة بعد الأخرى، وكان رد صديقي بأن هذه الأفكار ليست كلها من أفكار أمارة دبي بل هي في كثير من الأحيان أفكار شركات وأفراد وخبراء أجانب.
نعم قد يكون هذا صحيحا، ولكن هذا ما يحدد بالضبط البيئة الإبداعية التي تتلقى كل الأفكار، وتتعرف على الأفكار الجيدة منها، وتسمح لها بالتطبيق، وعندما يقال في علم الإدارة كلمة “شركة إبداعية” Innovative company، فهذا ليس معناه أن مدير الشركة يأتي بكل الأفكار بقدر ما هو قد أسس بيئة خلاقة تستقبل الأفكار الجيدة بكثافة وتطبق المناسب منها.
هذا ما فعلته دبي، وميزها عن معظم المدن العربية الأخرى: لقد استطاعت وضع آلية تستقبل بها الأفكار وتطبقها بذكاء، بينما كانت هذه الأفكار متاحة للآخرين ولم يستفيدوا منها.
قد يقول قائل: ولكن التطوير والتنمية تطلق على التنمية الاقتصادية وتطوير البنية التحتية ولا تطلق على التغيير السياسي والثقافي والفكري الداخلي، وأقول هذا صحيح، وربما كان هذا ما نحتاجه فعلا وهو أن نؤمن بأن التغيير الاجتماعي بأنواعه _ بما فيها السياسي والثقافي _ يجب أن يكون جزءا من خطط العرب التنموية، بحيث يكون هناك تصور طويل المدى وواضح لكيفية التغيير وأبعاده، ويحمي الدول العربية من دفعها بشكل غير متوازن نحو التغيير الداخلي.
لقد بدأت في المملكة ندوات الحوار الوطني والتي أتت بالكثير من المقترحات المميزة، واقتراحي بكل بساطة تأسيس مجلس يمثل فئات الناس المختلفة يقوم على تحويل هذه المقترحات لخطط وطنية واستراتيجات طويلة المدى يتم دمجها مع الخطط التنموية الخمسية، ويعمل هذا المجلس في نفس الوقت على تطوير آليات استقبال أفكار التطوير “المخلصة” وطرحها على ندوات الحوار الوطني بالإضافة لتمويل الدراسات وإقامة المؤتمرات لمناقشة هذه الأفكار وصيغها العملية قبل وضعها محل التطبيق.
لقد فعلتها ماليزيا من قبل حين وضعت خطة 2020، والتي رسمت آفاق التغيير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وحتى الأخلاقي حتى عام 2020، وكان هناك تقييم دائما لمدى الالتزام بهذه الخطة وتطبيقها حسب الظروف التي مرت بها ماليزيا عبر السنوات.
التغيير مطلوب دائما حتى لأكثر المجتمعات تقدما، لأنه يخلق الأمل بين الناس ويجعلهم يعيشون الأفق الجديد، وهذا ما جعل البعض يؤيدون التغيير إلى درجة إطلاق الشعار الشهير: التغيير لأجل التغيير!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية