سموها «خيانة الرخاء»: حتى لا يصبح الثراء بداية السقوط!!

من قسم إدارة وأعمال
الجمعة 11 مارس 2005|

لما توسعت أسبانيا في غزواتها داخل أمريكا الجنوبية واستطاعت جلب كميات كبيرة من الذهب من هناك قبل حوالي أربعة قرون من الزمن، بدأ المجتمع الصناعي الأسباني المتقدم يميل للاستمتاع بالثروة القادمة والرفاهية المبنية عليها، وأدى هذا إلى تراجع أسبانيا لصالح الدول الأوروبية الأخرى التي نقلت مبادئ التقدم الصناعي الأسباني وبنت عليها مسيرتها إلى أن صار الأسبان متأخرين مقارنة بشركائهم في الثورة الصناعية.

هذا المثال وعشرات غيره من الأمثلة جعلت الاقتصاديين يتحدثون عن شيء اسمه “خيانة الرخاء”، على أساس أن التجارب الاقتصادية تشير لأن الدول التي تنعم بالرفاهية الاقتصادية الواسعة، وخاصة تلك الرفاهية غير المبنية على نمو اقتصادي سنوي مخطط له ومرتبط بالقطاعات الإنتاجية، تعاني في كثير من الأحيان من الترهل والضعف في آخر المشوار.

هذا طبعا مخالف للمنطق الاقتصادي المبسط وهو أن رأس المال والثروة يفترض فيهما أن يكونا دافعين للمزيد من النمو وليس العكس.

أحد الأمثلة الأخرى التي يذكرها الاقتصاديون أن أفريقيا، قارة الثروات الطبيعية المتنوعة، بقيت تاريخيا تعاني من التأخر وظل الأفارقة قليلي الإنتاجية على مر القرون بسبب تعودهم على نيل الثروات بسهولة وبدون الحاجة للكثير من الجهد والعمل.

تفسير هذه الظاهرة الغريبة والتي يجب أن تكون محل دراسة مكثفة للدول الخليجية التي أنعم الله عليها بالثروة والرخاء والنمو الاقتصادي غير العادي وخاصة في السنوات الأخيرة يأتي من خلال فرضية “التحدي والاستجابة” والتي تقول بأن التحديات هي التي تدفع المجتمع للنمو، وأن المجتمع حين يفقد الإحساس بالحاجة للنمو ويشعر بأنه حقق الأهداف الاقتصادية التي يريد تحقيقها، أو السياسية أو الثقافية، فإنه ينزع للهدوء وعدم المبالاة باستفزاز كل إمكانياته ومنافسة الآخرين في تحقيق خطوات إضافية.

لكي يتجنب المجتمع “خيانة الرخاء” ويكون دائما في حالة نمو حتى لو كان يعيش طفرة اقتصادية لا بد أن تكون لديه أهداف متقدمة بمراحل واسعة عن وضعه الحالي بحيث يشعر المجتمع دائما بحالة التحدي ويستجيب لهذا التحدي بالمزيد من الجهد والعمل والسعي للنمو، وبذلك يتجنب السقوط في الفخ الذي وقع فيه الأسبان ومن قبلهم الأفارقة.

بمعنى آخر لابد للمجتمع حتى لو كان يعيش حالة ثراء مرضي عليها مقارنة بالجهد المبذول أو مقارنة بالدول الأخرى، لا بد له من “التظاهر” بالتحدي وإقناع المجتمع بهذا التحدي والسعي إليه فعلا بكل ما يملكه المجتمع من طاقات.

أقول هذا تعليقا على أحد الزملاء الذي قال في رد على نقاش بشأن تطوير البنية الاستثمارية في المملكة العربية السعودية بحيث تكون جاذبة للاستثمارات الأجنبية بأن المملكة تعيش حاليا وضعا اقتصاديا لا يجعلها في حاجة لأي استثمارات إضافية مبرهنا على ذلك بالنجاح الباهر لحملات المساهمة العامة في المشاريع الاقتصادية الجديدة.

من خلال ما سبق، أرد على هذه الرؤية ببساطة أن المجتمع لديه دائما خياران فقط في التعامل مع الوضع الاقتصادي، النمو الدائم الذي يفترض أن يتجاوز معدل 6% سنويا _ معدل نمو السكان السنوي في المملكة _ أو عدم النمو وبالتالي التراجع الاقتصادي وما يصاحب ذلك من مشكلات متعددة على مستوى الدولة والفرد.

بمعنى آخر، بمجرد أن تشعر الأمة بأنها وصلت إلى القمة تبدأ فعلا في الانحدار لأن الوضع الاقتصادي دائما في حركة وهذه الحركة هي للأعلى أو للأسفل.

بقي أن أقول أن نظرية التحدي والاستجابة تنطبق حتى على الشركات والأفراد، فبمجرد أن تطمئن مؤسسة ما لما حققته من إنجازات وتظن أنه من الممكن للمؤسسة أن تحافظ على هذا الوضع تقع في الخطأ الأكبر نفسه وتبدأ في الانحدار والتراجع.

هذا يعني أن من مهام التخطيط أن تكون هناك دائما آفاق متقدمة وأهداف جديدة حتى تكون الحركة للأمام وليس للخلف.

وربما كان من المعروف أن الشركات العالمية الكبرى تخطط للنجاح وهي في قمة نجاحها استشعارا مبكرا لأزمات قد تأتي مستقبلا.

حتى لا يكون الثراء نقمة على المجتمع أو المؤسسات لابد أن يكون التقدم هدفا دائما، وأن يكون التفوق المطلق هي قمة الجبل التي يتسابق إليها الجميع، وكما يقول مفكرو التطوير الاقتصادي: لا يكفي أن تكون متقدما بخطوة واحدة لأن اللحاق بك سيكون سهلا، ولا متقدما بخطوتين لأن الأذكياء سيستفيدون من تجربتك وينافسونك، بل لا بد من أن تكون متقدما بثلاث خطوات حتى تضمن التفوق.

نحتاج لأن نفكر جديا في هذه الخطوات الثلاث!!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية