كان للقمة الإسلامية التي عقدت الأسبوع الماضي في مكة المكرمة أثرا جميلا على الناس من خلال القرارات الصريحة والقوية التي خرجت بها، الأمر الذي جعلها من أنجح القمم الإسلامية خلال السنوات الأخيرة.
من الواضح أن الناس بدأت تفهم بشكل جماعي آثار الفكر المتطرف الحادة على الأمة الإسلامية ومساهمته في أوضاعنا المتردية، ولذا فإن ظهور القمة بهذه الرؤية المعتدلة التي تحارب التطرف وتؤكد على احترام الأديان والمذاهب وعلى قبول الآخر، وذلك بحضور القادة السياسيين والدينيين وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، ساهم في بث الراحة في القلوب والإحساس بشيء من التفاؤل بعد أن عم الظلام المكان وصارت الشمعة ضرورة، وقشة يتمسك بها الغريق.
لكن الأثر المعنوي للمؤتمر يصاحبه في نفس الوقت شك عميق من عموم الناس في أن تكون القرارات “حبرا على ورق”، وهو شك يلازم المؤتمرات والقمم العربية والإسلامية منذ زمن بعيد، وإن كانت هذه القمة لم ترتكب أخطاء المؤتمرات والقمم الأخرى التي تخرج ببيانات “صارخة” تحمل وعودا ضخمة يتبين للقارئ العادي من أول وهلة استحالة تنفيذها، ويشعر بالغضب لأن المجتمعين في المؤتمر استهزؤوا بعقله وفهمه للأمور ووعدوه بوحدة الأمة العربية والتصدي للمعتدي الغاصب وأخذ أقسى الإجراءات في حال تكرر الاعتداءات وغير ذلك من العبارات التي يحفظها معظم العرب من كثرة تكرارها واستفزازها للمشاعر.
البيان الختامي لهذه القمة كان هادئا، عقلانيا، يطالب بخطوات عملية، ويعترف بالقصور الضخم، ولكن الشك سيبقى محيطا به لأن الناس تريد أن ترى برامج عملية تطبيقية على أرض الواقع تحقق الأهداف وتجعل توصيات القمة القادمة إعلانا للإنجازات وتوصيات جديدة لتبني الإنجاز على الإنجاز.
الناس تريد أن تسمع قصة إنجاز كقصة الاتحاد الأوروبي، ولعل الفارق الأساسي في رأيي بين المؤتمرات والمشاريع الإقليمية العربية والإسلامية وبين مشاريع التنسيق الأوروبي هو كون المشروع العربي والإسلامي قد ارتبط بشكل أساسي بالعاطفة، العاطفة المتأججة، التي تغضب وتعلن غضبها عاليا، وتقدم مشاعر المحبة _ حتى لو كانت ظاهرية _ ولذا فإن عبارة “نشجب ونستنكر” التي يتندر بها الناس هي تعبير حقيقي عن محتوى بيانات كثير من المؤتمرات العربية والإسلامية التي تسمع فيه صوت العاطفة، وصوت الإحباط، وصوت الأمل، وصوت العطف، ولكنك لا تجد أمامك مشروعا حقيقيا.
هذا بالطبع ليس مأساة المشاريع التنسيقية العربية وحدها بل هي مشكلة عامة في مشاريعنا على اختلافها خلال العقود الماضية، مشكلة المشروع القومي والمشروع الإسلامي والمشاريع اليسارية والمشروع الليبرالي وحتى المشروع الاقتصادي العربي: الكثير جدا من العاطفة المتأججة والقليل جدا من الخطوات القابلة للتنفيذ.
والخطوات العملية لا تعني فقط أن نقول “سوف نعمل” و”إنشاء مؤسسة” و”تكوين لجنة” و”إرسال وفد” فهذه الخطوات وإن كانت تبدو عملية إلا أنها مجرد إفرازات ملموسة لرد الفعل العاطفي، وهذه الخطوات تطبق في كثير من الأحيان، ويسعد الموظفون العائدون بتحقيق مهمتهم، إلا أن الأهداف تبقى كما هي.. على قائمة الانتظار.
خذ مشروع “اليورو” كمثال يشرح مصطلح “البرنامج العملي”.
عندما خطر للأوروبيين توحيد عملتهم، تم العمل لأكثر من ستة سنوات متتالية على الدراسات التي تحلل وتدرس من كل جهة فكرة توحيد العملة وتأسيس عملة جديدة، اجتمع فيها رجالات البنوك من مختلف أنحاء أوروبا واستخدم فيها ألمع العقول المالية، ثم بدأ تفاهم الحكومات على مختلف الخطوات والاستعداد لكل سيناريو ممكن، ولما اتخذ القرار بعد التصويت عليه في الدول الراغبة في المشاركة، جاء معه جدول “إدارة مشروع” يشرح ما سيتم تنفيذه شهرا بعد شهر، سواء كان على المستوى النقدي، أم على المستوى البنكي، أم على مستوى توعية الناس وتدريبهم على التعامل مع العملة الجديدة، والتدرج في التنفيذ لتلافي أي مشكلة ممكنة.
النتيجة؟
تقديم عملة عالمية متميزة مع مشكلات قليلة جدا في التنفيذ.
كجزء من الشعور العملي لدى الاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد يطرح البرنامج ويشرح ميزاته وأهدافه وتمويله، ثم يترك للدول الأعضاء حق الاختيار فمن شاء فليدخل ومن شاء فليبق خارج البرنامج، وهذا ينطبق على كل البرامج، بما في ذلك مشروع عملة اليورو التي رفضت عدد من الدول دخوله.
بالمقابل فشلت الكثير من المشاريع العربية لأن حسنا العاطفي يفترض أهمية الإجماع العربي أو الإسلامي على القضية وتنفيذها، ولا بقبل الخلاف وتعدد وجهات النظر، ولذا تبقى المشاريع متحفظة غير جريئة، لأن المشروع الواحد يجب أن يكون مناسبا للجميع، وهذه المشاريع التي تصلح لأكثر من 20 دولة عربية أو 40 دولة إسلامية مشاريع نادرة جدا في كل الحالات.
تحتاج منظمة المؤتمر الإسلامي لتأسيس “شجرة تحليلية” للتوصيات التي خرج بها مؤتمر القمة، كل توصية تحلل إلى فروع لكيفية تنفيذها، وكل فرع يأخذ فروعا أصغر حتى نصل لمهام صغيرة فردية يقوم بها الشخص المكلف لتتضافر الجهود كلها لاحقا وتحقق الهدف المرجو منها.
عندما نقول نريد أن نحارب التطرف، فهذا يحتاج لجهود على مستوى التعليم ومستوى الإعلام والمستوى الثقافي ومستوى الخطاب الإسلامي ومستوى التوعية العامة ومستوى الاهتمام بحقوق الإنسان ومستوى حرية التعبير وغيرها كثير، ولكل واحد من هذه المستويات فروع متعددة جدا.
نحن ندرك أن منظمة المؤتمر الإسلامي تملك إمكانيات محدودة جدا، والتعامل مع كثير من الدول العربية والإسلامية يحتاج لكفاءات ضخمة حتى يمكن كسب تعاونها وتجاوز أسرار بيروقرواطياتها، وهذا وحده تحد تاريخي غير عادي، والحل يكمن فقط في تجزئة التحديات والعمل على مراحل حتى تنتهي السنوات وقد تحقق شيء من هذه الأهداف.
العاطفة لها سحر يبعث الابتسامة على الوجوه وتجمع الناس وتجبرهم على التعاطف، ولكنها تصبح وباءا قاتلا إذا اعتمدنا عليها وحدها في تحقيق أهداف أمة تعاني وتتألم ونتتظر!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية