منذ زمن بعيد، استقر في شعوري أن العرب أمة “تكره حرية التعبير” وتقف منها موقفا نفسيا وأيديولوجيا سلبيا، ووجدت أن هناك الكثيرين من المهتمين بهذا الموضوع يشاركونني هذا الشعور والذي يستند على أدلة كثيرة جدا يمكن التقاطها ببساطة من حياتنا ونقاشاتنا اليومية.
بكل بساطة نحن لا نتقبل فكرة أن “نترك الحبل على الغارب” وأن نترك لـ”كل من هب ودب” أن يقول ما يشاء، وخاصة إذا كان هذا القول سيخالف ما يعتقد به أغلب الناس، أو كان القول سيقترب من الثوابت والبديهيات التي تحملها الجموع العربية.
والعاملون في مجال الإعلام يصادفون هذه الحقيقة كل يوم، عندما يسمعون من الناس اللوم لأنهم نشروا شيئا معينا، وكل يحضر حجته على أن نشر هذا الموضوع سيضر بالمجتمع ويهدم الأمة ويفسد الأخلاق وأنه يفتح الباب أو يغلقه في وجه شيء معين، وهذه الاحتجاجات لا تأتي فقط من عموم الناس، بل من داخل المؤسسة الإعلامية نفسها التي يحاول كثير من العاملين فيها على فرض أفكارهم وتوجهاتهم الخاصة، وهم طبعا يؤمنون أنهم يحسنون صنعا لأنهم “ينصرون الحقيقة” ويفعلون ما هو صحيح.
وأنا هنا طبعا لا أتحدث عن المبادئ المهنية التي تحرم المبالغة والكذب والإثارة المزيفة وفرض الرأي الواحد ولا أتحدث عن بعض الأمور الأساسية مثل تجنب الفتن الطائفية وغيرها بل عما يتعلق بالمحتوى نفسه من معلومات وأفكار.
رغم هذا كله ستسمع من نفس هؤلاء الناس الذين تزعجهم حرية التعبير عبارات يتذمرون فيها من القيود الحكومية ومن القوى الضاغطة في المؤسسة الإعلامية وكأن ما يتمنونه يجوز لهم وحدهم ولا يجوز لغيرهم.
لقد تقبل الفكر الديمقراطي العالمي حرية التعبير رغم ما قد تسمح به لبعض الأفراد بقول ما لا يجوز قوله بسبب الإيمان العميق النظري والعملي بأن الفكرة القوية ستهزم الفكرة الضعيفة في “سوق الأفكار الحر”، بمعنى أصح، لو تركنا الأفكار تتصارع بدون أي تدخل، فإن الفكر العالمي الإنساني يؤمن بلا تردد أن الفكرة الصحيحة التي يساندها المنطق والعلم ستفوز وأن الفكرة الضعيفة التي تخالف المبادئ الإنسانية والمنطق والعلم ستموت وتنتهي.
بالمقابل نحن لا نؤمن بهذه الفكرة، بل نتعامل بحساسية عالية مع كل ما يقال حتى لو كان من الواضح أنه خال من أي منطق يسمح له بالانتشار ونطالب دائما بالرقابة الكاملة على التعبير بأنواعه، وذلك لأننا نؤمن أن الكلمة الواحدة لها تأثير عميق كتأثير “الرصاصة”، رغم أن هذه النظرية زالت من الوجود منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، ونظرية الرصاصة تؤمن أن الكلمة التي تذاع عبر الإعلام تؤثر بشكل أو بآخر على كل من يستمع لها، وكان محترفو الدعاية وخاصة في عهود الحرب العالمية الأولى والثانية قد روجوا لهذه الفكرة التي ثبت علميا بعد ذلك ضعفها وذلك لأن الباحثين اكتشفوا أن أثر الإعلام محدود عندما يصادم المنطق أو العلم أو المعتقدات العامة لدى الناس وأنه مجرد عامل من بين مجموعة عوامل تمارس التأثير مجتمعة على الفرد.
إن الذين يرفضون حرية التعبير يتجاهلون ثلاث قضايا رئيسية:
- الأولى: التاريخ، فتاريخ المسلمين في عهود نهضتهم كان شاهدا على مدى حرية التعبير في تلك العصور، ومن النادر جدا سماع القصص التي تدخل فيها السلاطين في محتوى الكتب والقصائد والخطب، وهناك الكثير من الكتب مثل كتاب “الأغاني” الذي يروي قصص سمعت حينها لأول مرة _ وذات أسانيد ضعيفة _ عن حب أهل المدينة والتابعين للغناء والمجون، لو ألف في يومنا هذا لضجت الدنيا وقامت ولم تقعد.
ولا أدري لماذا لا يتأمل الناس أن كل الجهود في الرد على الفرق الشاذة في مجالات العقيدة والفقه انحصرت في الرد على هذه الكتب، ولم نجد جهود لمنع هذه الكتب وتداولها أو حتى معاقبة اصحابها أو المؤمنين بأفكارها.
لم يتعرض الجاحظ إمام المعتزلة يوما لاعتداء شخصي ولم تتعرض كتبه للمصادرة رغم انتشارها وبقي شيخا للعرب في الأدب والبلاغة رغم الردود الفكرية القاسية عليه من الناحية العقدية والفكرية، وهذا مجرد مثال من مئات الأمثلة في هذا الجانب.
التاريخ أيضا أثبت أن الأمم المتقدمة في عصورنا الحديثة استطاعت فقط أن تلتقط أنفاسها وتتقدم عندما سمحت بـ”حرية التعبير” وحمته، وعانت من التأخر عندما حاربته.
- القضية الثانية: حرية التعبير كنظام لا يخلو من الأخطاء، وهو يسمح أحيانا للمغرضين واللا أخلاقيين بالترويج لفكرهم، ولكن تقييم النظام يقوم على المقارنة الكاملة بينه وبين النظم الأخرى، ومن المستحيل أن تجد نظاما خاليا من الأخطاء والعيوب ولكن العبرة بالبحث عن أفضل الأنظمة المتاحة.
- القضية الثالثة: إن الإيمان بأهمية القيود على التعبير أمر له اعتباراته الصحيحة والمنطقية جدا، ولكن السؤال الصعب من يحدد هذه القيود، من الذي سيمارس الوصاية على الباقيين ويحدد لهم يا يقولونه وما لا يقولونه؟
وحتى لو أعطينا هذه الصلاحية لمن نثق بهم على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الديني فمن يضمن لنا أن هؤلاء لن تتغير قلوبهم عبر الزمن ويخطئون لحماية أنفسهم وأفكارهم في وجه الفكر الآخر.
إنني لا أستطيع الإدعاء على الإطلاق بأن “حرية التعبير” هي الخيار الوحيد والصحيح، وأنا أتفق مع أكثر الطروحات التي تنتقد بشكل عقلاني هذا الخيار، ولكنني أطالب المجتمع بكافة مؤسساته أن يبحث مليا عن نظرية أخرى تنظم قرارتنا اليومية حول ما يقال أو ما لا يقال، آخذين هذه القضايا الثلاث بالاعتبار، وذلك خير لنا من أن نبقى بلا نظرية، ضحايا للتخبط والعشوائية، نقول شيئا ونفعل شيئا آخر.
أن نحدد الطريق خير لنا من أن نبقى في التيه، حتى لو كان هذا الطريق مليء بالأشواك!!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية