لا يشك أحد أن البطالة وعدم توفر الوظائف هو من أصعب التحديات الاقتصادية التي تواجه مختلف دول العالم، وخاصة العالم الثالث، وذلك ببساطة لأن النمو السكاني هو في معظم الأحيان أسرع من النمو الاقتصادي للدولة، وهذا ما يجعل مؤشر البطالة الشهري الذي يصدر عن الخزانة الأمريكية ويصدر في معظم الدول الغربية من أهم مؤشرات الاقتصاد المحلي.
بل إن آلان جريسبان، رئيس البنك المركزي الفدرالي بأمريكا، قد ابتدع طريقة لحل مشكلة البطالة تتلخص في تخفيض سعر الفائدة الأمر الذي يساهم سريعا في كثرة القروض البنكية وزيادة المشاريع الجديدة وبالتالي توفير الوظائف رغم تأثير ذلك السلبي على بعض أبعاد الاقتصاد الأمريكي “مثل التضخم”.
لكن الغرب عالج البطالة أيضا من خلال تجربة أخرى تتمثل في التشجيع غير المحدود للمؤسسات الصغيرة، والتي قد تتكون في كثير من الأحيان من شخص واحد، وهو الشخص الذي لم يجد في الغالب وظيفة مناسبة له ولطموحاته.
في كندا على سبيل المثال، يمكنك أن تقصد أي مكتبة عامة وتدخل لمكتب خاص بتسجيل مؤسسات الأعمال الصغيرة، وهذا المكتب مفتوح من الصباح الباكر حتى منتصف الليل عادة، ويمكنك خلال ربع ساعة كحد أقصى تسجيل مؤسسة أعمال صغيرة حيث يجلس معك الموظف على الكمبيوتر لاختيار اسم للمؤسسة “غير متكرر”، وكتابة معلوماتك العامة، ثم دفع مبلغ 45 دولارا هي مجمل رسوم التأسيس، وبعدها تصبح لديك مؤسسة صغيرة يمكنك من خلالها ممارسة مختلف الأعمال التجارية المسجلة “ولا يبقى لك من الإجراءات إلا دفع الضرائب كل سنة!”.
ليس ذلك فحسب، بل بمجرد تسجيلك لعنوانك البريدي والعنوان الإلكتروني تصلك يوميا رسائل وملفات تساعدك على استغلال الفرص الموجودة للمؤسسات الصغيرة في كندا وتعلمك كيفية بناء مؤسسة تجارية والقيام بأمورها المحاسبية وغيرها.
ساهمت هذه التجربة عالميا “في أمريكا الشمالية وأستراليا وأوروبا الغربية بشكل خاص”، على كبح البطالة لأن الشركات الكبرى رأت في إجراء العقود مع المؤسسات الصغيرة للقيام بالأعمال الجانبية أو الأعمال التي لا يرتبط بها نجاح الشركة بشكل مباشر فرصة لتقليل المصاريف ورفع مستوى الجودة والمساعدة على تركيز الشركة على مهامها الأساسية.
هذه العقود هي في الغالب مع مؤسسات صغيرة جدا تبدأ من شخص أو شخصين لا يكون لديهم أحيانا ما يقومون به سوى عقد مع شركة معينة ينفذونه من الصباح للمساء.
بل إن الكثيرين يبدأ حياته المهنية بهذا الشكل حتى تثبت جدارته لأحد الشركات التي يعمل معها فتقوم الشركة بتوظيفه، ويقوم بعدها بإغلاق مؤسسته الصغيرة التي كانت حلقة وصل ينتقل من خلالها من عالم البطالة إلى عالم التوظيف.
إن دولة مثل المملكة العربية السعودية المليئة بالطاقات الشابة والمتعلمة لجديرة في رأيي بشكل خاص بالتأمل في هذه التجربة ومحاولة الاستفادة منها بشكل مكثف، لأن هذا سيرقي قطاع الأعمال بشكل عام، ويزيد من حجم الحركة التجارية الداخلية، ويقلل من خوف الشركات الكبرى من الطاقات الناشئة، ويسمح للأفكار الجديدة بالنمو، وأهم من ذلك كله يسمح لكل شخص أن يركز على تخصصه وأن يسعى لتحقيق طموحاته.
لكن تطبيق مثل التجربة يتطلب من المؤسسات الحكومية عموما تقديم كل التسهيلات الممكنة للمؤسسات الصغيرة، ومن خلال إلغاء الشروط المعقدة والمتراكمة عبر السنين، وجعل التسجيل ممكنا خلال ساعة واحدة، وتسهيل الحصول على الأسماء الجديدة، وعدم المطالبة برأسمال وضمانات بنكية عند تأسيس شركة، وإلغاء الرسوم على المؤسسات الصغيرة، وغير ذلك من التسهيلات.
بعد ذلك يأتي التشجيع من طرف المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص التي عليها هي أيضا أن تدرس تجربة عقود الباطن Outsourcing، مع المؤسسات الصغيرة والاستفادة منها، وتأتي الحملات الإعلامية التي تدعو الجميع لاحترام المؤسسات الصغيرة، كما تبرز أهمية تأسيس جمعيات تجارية ليس لها هدف إلا تشجيع المؤسسات الصغيرة _ التي لا يزيد عدد موظفيها عن 4 أشخاص _ وتعليم الشباب على مختلف الجوانب التجارية والمالية والقانونية التي يحتاجونها في تجربتهم الجديدة.
الشباب هم عماد حركة المؤسسات الصغيرة و”التجارة الناشئة” في مختلف دول العالم، والمملكة تحظى بواحدة من أعلى نسب الشباب في العالم، وهذا يجعلها الأجدر بتحويل طاقة هؤلاء الشباب لطاقة تجارية كفيلة وحدها أن تضع المملكة العربية السعودية على خريطة أكثر المناطق التجارية نشاطا.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية