لم يكن الموظفون في مكتب المبيعات في إحدى كبرى شركات التأمين الأمريكية يفعلون ما ينتظره الناس عادة من مندوبي المبيعات، بل كان الأمر يبدو وكأن الجميع في رحلة ترفيهية.
في بعض الأحيان كان يمكن مشاهدة الموظفين يأخذون مساجا أو تمرين ارتخاء على يد متخصصين، بينما هم في المكتب يتحدثون مع العملاء على الهاتف.
في بعض الأحيان كان الجميع يجلس في حلقة مستديرة لقراءة شئ من مذكراتهم الشخصية.
أحد اجتماعات المكتب تمت على الشاطئ بعد رحلة ترفيهية بالدراجات الهوائية.
بالرغم من كل هذا، إنتاج إدارة المبيعات زاد بنسبة 60% في ذلك العام.
لماذا لجأت مديرة مكتب المبيعات لتغيير نظام المكتب التقليدي وإدخال هذه النظم الجديدة التي رفعت المبيعات فجأة وجعل اسمها مطروحا على قائمة المرشحين لإدارة الشركة العملاقة ككل؟
لأن مدربها الشخصي نصحها بذلك!!
كانت ماري برادفورد، مثلها مثل كل الطموحين من الموظفين في أمريكا والذي يعملون من الثامنة صباحا إلى العاشرة مساء رغبة في الصعود في سلم الإداريين الكبار، ولكن الأمور كانت بطيئة بالرغم من الجهد الهائل، وكانت تعيش بدون عناية بحياتها الشخصية، الأمر الذي كان له ضغطه النفسي عليها، إلى أن جاء من نصحها بتعيين «مدرب تنفيذي» لها.
«المدرب التنفيذي» ظاهرة خاصة بأمريكا أوجدها ضغط الطموحات والمسؤوليات مع الرغبة بالاستمتاع بالحياة وبوضع نفسي ممتاز وبتحقيق المزيد من النجاح.
في حالة برادفورد، قام مدربها التنفيذي والذي يدرب عشرات العملاء من مدراء كبار الشركات في أمريكا بما فيها موتورلا وسيتي بنك وغيرها من خلال الهاتف بينما هو مسترخي في شقة له في نيويورك، بإعادة فحص أهدافها قصيرة المدى وبعيدة المدى والقواعد الشخصية التي تسعى من خلالها لتحقيق الأهداف، كما ساعدها على إعادة تنظيم وقتها بالإضافة إلى كل تفاصيل عملها الإداري بما في ذلك كيفية حل المشكلات التي تحدث في إدارتها وكيفية إعادة تخطيط العمل بما يضمن المزيد من النجاح والأساليب البسيطة التي يمكن فعلها لتقوية علاقاتها الشخصية بزبائنها الكبار وأعضاء مجلس الإدارة وحتى بأصدقائها الشخصيين الذين كانت تشتكي دائما من إهمالهم وسط مشاغلها المتراكمة.
أيضا، عمل المدرب مع برادفورد، لإعادة طريقتها في الكلام، فمثلا كانت كأي مندوب مبيعات في الدنيا، تقدم الكثير من الوعود عند العرض والتي عند التنفيذ كانت أقل من الوعود، وصارت بالعكس تقدم وعودا أقل مع استخدام أساليب تجارية أخرى لسحب الزبون وتنفيذا أفضل، مما أثبت قدرته على بهر الزبائن ورفع سمعة إدارتها في أوساطهم.
جزء من التدريب تضمن الاستعداد للقاء مهم مع أحد مدراء الشركة وتدريبها على ما يجب أن تقوله وما لا تقوله، وكيف تتصرف إزاء كل طلب أو سؤال.
مثل كل الناس كانت برادفورد، تعتقد أن بناء شخصية الإنسان وتخطيط حياته وأسلوبه في التعامل مع الآخرين هو أمر شخصي لا يمكن لأحد أن يساعد فيه وذلك إلى أن مرت بهذه التجربة.
لكن هذا الاعتقاد _ بالرغم من تزايد المدربين التنفيذيين في أمريكا _ مازال سائدا، ومازال الأمر يبدو غريبا جدا في عالم الإدارة، وإن كان هناك الآن مدراء كثيرون في شركات مثل IT&T، وKodak، وIBM، وغيرها، يتعاملون مع هؤلاء المدربين دون أن يخبروا أحدا بذلك!.
لكن الظاهرة في تزايد سريع إلى درجة أن بعض الشركات بدأت خلال الأعوام الثلاثة الماضية تعيين هؤلاء المدربين كموظفين في شركاتهم لإعطاء النصيحة “بالجملة” للمدراء وأعضاء مجلس الإدارة، كما بدأت ظاهرة المدربين الأقل مستوى والأرخص سعرا بالطبع، لمساعدة الموظفين الصغار على مواجهة مثل هذا النوع من المشكلات وتخطيط الحياة الناجحة حتى لو كانت مؤهلاتهم الدراسية والعملية محدودة جدا.
واحد من الأسباب التي نشطت هذه الظاهرة أن هناك حذر واسع في الأوساط الإدارية الأمريكية من التعامل مع النواب ومدراء المكاتب، كما هو سائد عادة في مختلف دول العالم، كمستشارين شخصيين، لأن نائب المدير قد يغدر بالمدير أو يتركه ومعه كل الأسرار أو على الأقل يعرف نقاط ضعف المدير ويغزوه منها.
إذن لماذا «وجع الرأس» إذا كان يمكن تحقيق كل هذه المزايا من خلال شخص محترف ذي خبرة تجارية وإدارية واسعة لا يمثل أي خطر اجتماعي أو إداري على الشخص؟
السبب الآخر أن المتخصصين في مجال «علم النفس الصناعي»، والذين يفترض أن يقوموا بهذه الوظائف بسبب أن دراستهم تركز على نفسية الإنسان في مكان العمل، لم يستطيعوا تلبية احتياجات المدراء الكبار بسبب عدم لحاقهم ببيئة العمل سريعة التغير في بلد مثل أمريكا، ولأن معظمهم يصبح جزءا تقليديا من إدارة تنمية الموارد الإنسانية في الشركات.
السبب الثالث، أن كثيرا من المدراء في أمريكا يعينون لأنفسهم متخصصين نفسيين يتحدثون إليهم بشكل دوري عن مشكلاتهم اليومية والضغط النفسي الذي يواجهونه بسبب الاعتقاد الواسع في أمريكا أن الحديث عن المشكلة لشخص ما تثق فيه ولا تخاف من أنه سيغير رأيه فيك بعد سماع مشكلتك أو ينشر أخبارك عند الآخرين هو جزء أساسي من التنفيس عن النفس وحل المشكلة.
بتعيين المدربين التنفيذيين يكون هؤلاء قد ضربوا عصفورين بحجر، لأن هؤلاء المدربين يستمعون أيضا لمشكلاتهم ويقدمون لهم آرائهم المفيدة أكثر من آراء المستشارين النفسيين بسبب خبرة المدربين العملية الواسعة.
سبب آخر ومهم جدا يجعل هذه الظاهرة سريعة التنامي في أمريكا بالذات.
في السابق وفي معظم دول العالم حاليا، للخبرة أهميتها الخاصة ولذا فإن الموظف يقضي بضعة سنوات من عمره قبل أن ينتقل لدرجة أعلى ويستمر في الانتقال بناء على خبرته حتى يصل إلى درجة معينة في السلم ثم يتوقف بعد ذلك في ذلك المكان حتى تقاعده.
في العشر سنوات الأخيرة بدأت هذه القاعدة تتغير في دول مثل أمريكا واليابان وألمانيا وغيرها.
مع التغير السريع في عالم الأعمال اليوم وظهور عوامل جديدة ومهارات مطلوبة جديدة باستمرار لم يعد للخبرة أي معنى بقدر ما أصبحت الأهمية اليوم للقدرة على التلائم مع التغير والتجديد المستمر للنفس والتحرك في الوقت المناسب نحو الفكرة الجديدة.
على سبيل المثال، مدير شركة قضى 30 سنة من عمره في إدارتها قد يصبح غير صالحا للإدارة إذا لم يستطع التعامل مع ظاهرة التجارة على الإنترنت وقد يستبدل _ كما حصل في حالات كثيرة _ بمدير صغير السن أثبت قدرته على التعامل مع الإنترنت.
لكل هذه التغيرات ولملاحقتها أصبح المدراء يحتاجون للمدربين التنفيذيين.
هل ظاهرة المدربين التنفيذيين واسعة الانتشار في أمريكا؟
يقول اتحاد المدربين الدولي، والذي تأسس فقط قبل أربع سنوات ويضم حاليا في عضويته 2400 مدربا، أن عدد المدربين في أمريكا يصل حاليا إلى حوالي عشرة آلاف مدرب، والعدد في تنامي سريع بسبب الإقبال المتزايد على خدماتهم، الأمر الذي يثبته بالنسبة للاتحاد الأعداد الكبيرة لزائري موقعه على الإنترنت.
حاليا يبلغ أجر المدرب المعروف حوالي 2000 دولار شهريا، والذي يحصل عليه مقابل ثلاث مكالمات هاتفية شهريا، بحيث لا تزيد فترة المكالمة عن نصف ساعة.
المدربون الأقل شهرة يأخذون 400 دولار للساعة، ويبدأ سلم الأسعار ينزل مع ضعف شهرة المدرب وسجل إنجازاته.
مدرب برادفورد، الذي تحدثنا عنه في البداية، لديه 42 زبونا من مدراء الشركات، وهذا يعني أن راتبه الشهري يبلغ حوالي 84 ألف دولار مقابل ساعتين عمل يوميا فقط.
هذه الأرباح الرهيبة هي التي تدفع مدراء ناجحين وأذكياء للاستقالة من أعمالهم والتفرغ تماما لهذا العمل وقضاء وقت الفراغ في متابعة تطورات الحياة التجارية في أمريكا وتثقيف نفسه لخدمة زبائنه، بالإضافة للتسلي بشئ من شراء وبيع الأسهم وطبعا تحقيق المزيد من الأرباح.
تأسست حاليا ما يسمى بـ«جامعة التدريب»، والتي تقوم بتدريب الطلاب ليصبحوا «مدربين تنفيذيين»، والجميل أن كل دروس واختبارات هذه الجامعة تتم على الإنترنت وبالبريد الألكتروني والكاميرا الرقمية الملحقة بشاشة الكمبيوتر.
الجامعة أسسها توماس ليونارد، الشخص الذي كان مستشارا ماليا في مدينة سياتل الأمريكية وأصبح في أواخر الثمانينات الميلادية متخصصا في «تخطيط الحياة» بعد أن اكتشف أن عملائه من المليونيرات يريدون الحديث عن حياتهم الشخصية بقدر ما يريدون تخطيط استثمار أموالهم، ثم غير ليونارد اسمه ليصبح بعد ذلك «مدرب تنفيذي» وبدأ حينها ظاهرة «المدربين التنفيذيين».
بعض الشركات قامت بتعيين مدربين تنفيذيين لأنهم خافوا من خروج أسرار الشركة إلى الخارج ضمن حديث المدراء مع مدربيهم.
أحد هذه الشركات كانت IT&T، والتي لما عينت مدربا تنفيذيا في أحد الإدارات الإقليمية زادت أرباح الإدارة إلى 16% بعد أن كانت 8% في العام الذي قبله.
وبدأت إدارة الشركة تفتح عينيها على أهمية المدرب التنفيذي، في هذه الحالة عمل المدرب التنفيذي 24 ساعة فقط في المجموع وذلك مقابل ثلاثة عشر ألف دولار أمريكي.
Kodak في أمريكا، شركة أخرى نفذت الفكرة نفسها، وكانت النتيجة تدريب الموظفين على التعامل مع التطورات التكنولوجية السريعة بما يضمن النجاح للشركة، كما قلت الموارد الضائعة وزاد إنتاج الموظفين عن السابق.
هذه النتائج قد تقلب عالم التدريب رأسا على عقب.
في السابق وحتى الآن، كان التدريب في الأوساط التجارية يتركز على وضع المدرب مع مجموعة من الموظفين لوقت ما وتدريبهم.
المفهوم الجديد للتدريب هو إعطاء كل شخص النصيحة على حدة ومزج التدريب العملي بالنصيحة الشخصية والاستماع للهموم وتخطيط كل ساعة من ساعات اليوم بما يوجد التلاؤم الكامل في حياة الإنسان، وبالتالي المزيد من الإنتاج والإبداع في المكتب.
إذا كان بطل لعبة الجولف، تايجر وود، لديه مدرب رياضي بالرغم أنه أفضل من لعب الجولف في التاريخ، فإن مدير الشركة الكبير يمكن أن يكون لديه المدرب التنفيذي الذي يساعده كما يساعد المدرب الرياضي المتدرب مع فرق واحد: المدرب التنفيذي يحمل معه خبرات الحياة ويجلس في مكتبه الأنيق ليقدم النصائح ويحصل المال في النهاية.
هل هناك أي وظيفة في العالم أجمل من هذه الوظيفة؟
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية