لم يعد مصطلح «حرب المعلومات» شيئا جديدا في الدراسات الاستراتيجية والعسكرية الأمريكية، فهي كما تبدو للجميع الجزء الرئيسي من أي حرب مستقبلية عسكرية أو حتى اقتصادية أو إعلامية.
في هذه الحرب، ستستخدم الدول التكنولوجيا المتطورة للتجسس على الدول الأخرى واتصالاتها، وتصوير جميع التحركات التكتيكية في هذه الدول.
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، أبرز نجوم هذه الحرب حتى الآن، أنظمة التجسس من خلال جواسيسها المتوزعين في دول العالم، وخاصة في الاتحاد السوفيتي وحلفائها، لجمع أكبر قدر من المعلومات تبدأ من العادات الشخصية لشخصيات هذه الدول، ومرورا بتصميم مطاراتها ومواقع منشآتها الاستراتيجية، وانتهاءً بخطط هذه الدول ضد الولايات المتحدة، وبدأت هذه الحرب تتوسع حتى الثمانينات الميلادية، حيث استعمال الأقمار الصناعية لتصوير المواقع الاستراتيجية حول العالم، وانتهاء بثورة التسعينات الاتصالية، حيث بدأت حرب المعلومات بالتجسس على الاتصالات الشخصية، وعلى شبكات الكمبيوتر وكل ما يحدث فيها من نقل معلومات بما فيها الشبكة العنكبوتية العملاقة «الإنترنت».
كانت آخر المهام العسكرية العلنية التي استخدمت فيها صور الأقمار الصناعية في حرب الخليج وقصف العراق الذي حصل في السنوات التي تلتها لما رفض الإذعان لقوانين مجلس الأمن الدولي.
في تلك الحرب، استخدمت الولايات المتحدة تقنيات مذهلة سمحت بإعطاء أدق التفاصيل عن الأهداف العراقية، حتى أن أحد الطيارين الفرنسيين الذي أعطي بعض الصور قبل صعوده لطائرته كتب عن اندهاشه البالغ من دقة هذه الصور.
في الفترة نفسها، ظهرت تقارير إعلامية للرأي العام وللكونجرس الأمريكي تشرح إمكانيات الولايات المتحدة التي تسمح لها بتصوير أي موقع على وجه الأرض من خلال شبكة الأقمار الصناعية بما يعطي تفاصيل تشمل أرقام لوحة سيارة أو معالم وجه إنسان.
القمر الصناعي المتطور «كنان»، وقمر «لاكروس»، يمكنهم أخذ هذه الصور أثناء الليل أو الضباب وبمستوى تفاصيل صورة ليزر.
هذه الصور تذهب لنظام آخر في الفضاء للاتصالات والذي يحولها لمعلومات رقمية في ثوان معدودة لتحول بعدها «مكتب الاستطلاع الوطني» NRO، وهي الجهة الحكومية التي تشرف على الأقمار الصناعية، والتي لم يكشف عن وجودها للرأي العام إلا قبل 5 سنوات (بقي ذلك سرا لمدة 32 عاما)، لتطبعها باستخدام برنامج كمبيوتر شديد الدقة اسمه «الحقيقة الفعلية»، لتذهب في النهاية للمركز الرئيسي لوكالة المخابرات المركزية بولاية فرجينيا الأمريكية.
ضمن البرامج التي تقوم الأقمار الصناعية بتنفيذها برنامج مذهل _ لو صحت المعلومات المخبرة عنه _ اسمه «إيشيلون»، وتطلق في الإنجليزية على تنسيق معين للجنود.
هذا البرنامج بقي سريا تماما، حتى قام بعض أفراد جهاز المخابرات النيوزيلندي GSCB، شريك المخابرات الأمريكية في هذا البرنامج، بتسريب بعض المعلومات، والتي تكشف عن هدف البرنامج في مراقبة معظم الاتصالات التي تحصل على وجه الأرض عبر الهاتف والفاكس والبريد البرقي والإلكتروني.
نيوزيلندا طُلب منها سرًا في آخر الثمانينات الميلادية المشاركة في البرنامج كقاعدة سهلة لمراقبة الدول عبر بحر الباسفيك.
البرنامج الذي يراقب كل الاتصالات التي تتم عبر الشبكة العالمية للاتصالات، وهذا يستثني الشبكات الصغيرة المصممة بواسطة بعض الأفراد أو الشركات الخاصة.
«إيشيلون»، مختلف عن كل البرامج السابقة بأنها جميعا كانت تراقب الاتصالات العسكرية، بينما هذا البرنامج يراقب الاتصالات المدنية للحكومات والأفراد والمؤسسات في كل دولة في العالم.
أيضا هذا البرنامج ليس مصمما بحيث يستهدف جهة معينة بالمراقبة، بل هو يتعامل مع كل المعلومات التي يراقبها بآلية محددة مرسومة له إلكترونيا بحيث يرشح المعلومات ذات الأهمية للأطراف المستفيدة منه أيا كان المتصل.
الكمبيوتر يتلقى كل الرسائل تحت المراقبة بمختلف اللغات ليختار منها تلك التي تحتوي على كلمات معينة مبرمجة في البرنامج التي توحي بأن الرسالة قد تحتوي على شيء مهم.
رغم أن هذا النظام ليس جديدا “البحث في الرسائل عبر كلمات مبرمجة” واستعملته شركات التجسس منذ السبعينات، إلا أن ميزة «إيشيلون»، أنه جمع المعلومات القادمة من كل أنحاء الأرض مع قاعدة معلومات متطورة وواسعة تكشف مصادر الاتصالات وهويتها.
البرنامج تشرف عليه الولايات المتحدة ونيوزيلاندا، بالإضافة لثلاث دول أخرى هي بريطانيا وكندا واستراليا، وهي الدول الخمس التي وقعت اتفاقية عام 1948 بعد الحرب العالمية، لتأسيس برامج لمراقبة اتصالات الاتحاد السوفيتي وحلفائه.
عملت هذه الدول سويا في تأسيس برامج تجسس إلي أن وصلت أخيرا للبرنامج الأخير، إلا أن تعاونها كان محصورا دائما في جمع المعلومات، بينما تقوم كل دولة منها على حدة بتفسير المعلومات وتصنيفها واختيار ما تريده منها.
ولذا فهناك قائمة بالكلمات المبرمجة الخاصة بكل دولة والتي تفرز الرسائل الخاصة بكل دولة وتنقل إلكترونيا، بدون إمكانية إطلاع أي إنسان، عبر الكابلات من المركز الرئيسي بمدينة «وايهوباي» جنوب نيوزيلاند، إلى الدول الأربعة الأخرى.
يعمل «إيشيلون»، بتعاون أقمار التجسس الصناعية مع شبكات اتصال أرضية وأنظمة لاسلكية، ويستفيد من كون معظم شركات الاتصال في العالم لها مراكز في هذه الدول الخمسة والتي يتم التنسيق معها لتركيب تقنيات تساعد على التجسس.
هناك خمس محطات أرضية للمراقبة تساعد هذا البرنامج في التقاط الرسائل، في أعالي البحار قرب بريطانيا، وفي قرية «سوجار جروف» 200 جنوب غرب العاصمة الأمريكية واشنطن، وفي ولاية واشنطن الأمريكية في أقصى الشمال الغربي لأمريكا، وموقع بنيوزيلاندا وأخير في جنوب استراليا.
خمس محطات أخرى تراقب الرسائل الصادرة عبر الأقمار الصناعية واللاسلكي في شمال بريطانيا، وشمال استراليا، وجنوب كندا، وفي ألمانيا، وشمال اليابان. بعض المصادر البريطانية تؤكد أن المراقبة تحدث فقط للرسائل المكتوبة “الفاكس، البريد البرقي والإلكتروني”، بينما لا يوجد نظام لمراقبة الاتصالات الهاتفية الشفهية، لكن لاتوجد معلومات أكيدة توضح تماما صحة هذه المعلومة.
بعض هذه التقنيات التجسسية لا تعمل إلا بتركيب أجهزة تتجاوب معها على الأرض.
هذا ما أوقع الأمريكي، ريتشارد بليس، في قبضة الحكومة الروسية في آخر العام الماضي، نوفمبر 1997، وهو يقوم بتركيب أجهزة تابعة لأقمار صناعية في جنوب روسيا، بينما هو كان في الظاهر يعمل لصالح شركة «كوالكوم» الأمريكية، لجمع معلومات جغرافية قرب البحر الأسود وتركيب أجهزة اتصالات شخصية.
ومازالت المفاوضات جارية حتى الآن بين الدولتين حول مصير بليس، النهائي: الإعدام حسب القوانين القديمة أو الإفراج بسبب تحسن العلاقات الثنائية أو بينهما.
بعد انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، عانت الـCIA، من أزمة مع الرأي العام ممثلا بالكونجرس الذي بدأ في السؤال عن وظيفة الـCIA، في التسعينات الميلادية التي تبرر ميزانيتها الخرافية.
ضمن المهام الجديدة التي تروج الـCIA، لها ملاحقة الإرهابيين حول العالم، تجار المخدرات، وتجار الأسلحة العسكرية المتقدمة وخاصة النووية منها التي تسربت من الترسانة العسكرية السوفيتية.
نوع آخر من البرامج والتي يشتبه بعض المهتمين بأنه يستعمل «إيتشيلون»، أيضا بالإضافة لتقنيات أخرى.
هذا البرنامج هدفه الحرص على التفوق الاقتصادي للشركات الأمريكية حول العالم.
ببساطة، كل ما يفعله هذا البرنامج، حسب تصريحات عدد من كبار المسئولين الأمريكيين، هو توفير المعلومات المفصلة عن الشركات المنافسة للشركات الأمريكية وعملياتها التجارية اليومية.
بالرغم من أن الأمر يبدو سهلا، إلا أن الحقيقة أن هذه المعلومات عندما تدخل في عالم البنوك والبورصات المالية والشركات العابرة للقارات والصناعات التكنولوجية تصبح ذات أهمية فائقة في الفوز بالمنافسة.
بعض التقارير تدعي _ بلا وثائق _ أن هذه المراقبة تشمل التأكد من سير تنفيذ اتفاقية الجات حسب المتفق عليه بين الدول أعضاء الاتفاقية.
أحد الأمثلة التي توحي بها بعض الوثائق بالإضافة لتصريح مساعدة وزير الطاقة، سوزان تيرني، هو مراقبة شركات السيارات اليابانية واستراتيجياتها التصنيعية والتسويقية وإفادة الشركات الأمريكية الكبرى الثلاث للسيارات، والتي تعمل حاليا على مشروع مشترك لإنتاج سيارة متفوقة منها.
وثيقة أخرى أكدت مراقبة الولايات المتحدة لصناعة السيراميك في اليابان وغيرها وتطوراتها وبعض التقنيات الزراعية المتطورة في الصين.
إلين سيدمان، موظفة بالمجلس الاقتصادي الوطني بالبيت الأبيض، أكدت مراقبة الولايات المتحدة لتطور الأبحاث التكنولوجية في اليابان بكل أنواعها.
من جهة أخرى، جيمس ولسي، رئيس المخابرات الأمريكية، ينفي تماما مشاركة الولايات المتحدة في أي برنامج من هذا النوع.
هذا الإنجاز “التكنولوجي _ العسكري” الرهيب لم تكن تكلفته المادية سهلة أبدا، وربما لا يمكن إدارتها بدون ضخ مالي ضخم.
في عام 1993، انفجر صاروخ «تيتان» بعد إقلاعه بدقيقتين من كاليفورنيا، الانفجار الذي اعتبره جفري ريتشيلسون، مؤلف كتاب «عيون أمريكا السرية في الفضاء»، الخزي العظيم للجالية المخابراتية.
الصاروخ كان يحمل أجهزة تجسس غير معلن عن طبيعتها، ولكن ما أعلن عنه أن إدارة المخابرات الأمريكية CIA، خسرت بانفجار الصاروخ ما قيمته بليار دولار من أجهزة التجسس، وهذه تمثل قيمة صاروخ واحد فقط.
وعلى أساس ذلك الانفجار تقدم جيم ولسي، رئيس المخابرات الأمريكية، بطلب للكونجرس لرفع ميزانية المخابرات الأمريكية مليارا واحدا لتصبح الميزانية الإجمالية للمخابرات الأمريكية لعام 1994 5،28 مليار دولار.
بعد الانفجار ظهر من مناقشات الكونجرس أن الصاروخ كان يحمل ثلاثة أقمار صناعية كل واحدة منها بحجم سيارة وهدفها العمل كمثلث إلكتروني لمراقبة حركات السفن حول العالم واتصالاتها.
المخابرات الأمريكية رفضت الإجابة عن سؤال الكونجرس عن ضرورة مثل هذه الأقمار، بينما يوجد من قبل نظامين في الفضاء لمراقبة تحركات السفن، وهذا خلق الكثير من الجدل حول مشروع المخابرات الأمريكية والقوى الجوية الأمريكية لبناء 41 صاروخا مماثلا.
واحد من هذه الصواريخ، واسمه «ميلستار»، يتضمن نظاما لدعم الاتصالات العسكرية في أي حرب نووية تدخلها أمريكا، والذي يمكن أن يحذر من أي صواريخ نووية على وشك الإطلاق حول العالم.
صاروخ «لاكروسي»، هدف تقدم صور مفصلة للمواقع الأرضية حتى مع وجود السحب أو الظلام، وذلك لاستبدال «لاكروسي» القديم الذي لم تكن فيه هذه الصفة، والذي أطلق في عام 1989.
التجسس ليس الوظيفة الوحيدة للأقمار الصناعية المعلوماتية الأمريكية، فهذه الأقمار استخدمت في بعض الوظائف الإيجابية، وإن كان بعض الأفراد والمنظمات الأمريكية يرون في ذلك دعاية لتحسين سمعة هذه الأقمار و«تغطية على ممارساتها اللأخلاقية».
من هذه الوظائف، والذي أعلن عن تطويرها في أغسطس 1997، تحديد المناطق الوبائية التي تعاني من أمراض معدية وسريعة الانتشار، أو حتى تلك التي ينتشر فيها ميكروب معين قبل انتشاره بين الناس.
من الوظائف الأخرى التي أعلن عنها في العام نفسه، مراقبة حركة اللاجئين في العالم بهدف «دعمهم سياسيا وغذائيا».
وبالتالي فإن اللاجئين من البوسنة أو من بورما يمكن رصدهم ومعرفة عددهم التقريبي ومناطق استقرارهم الجديدة.
قبل ذلك، في عام 1995، أعلنت المخابرات الأمريكية عن استخدام هذه الأقمار لمراقبة الانحدار البيئي حول العالم بما فيها نسب الغازات الجوية وحرارة المحيط وسماكة ثلج القطبين والتصحر وثقب الأوزون.
ومع ذلك، فالمعلومات عن هذه المهمة كلها «سرية» وذلك حسب قول دافيد فرينش، المتحدث الرسمي باسم المخابرات الأمريكية، لأن «آلات جمع المعلومات المستعملة سرية جدا، بل بعضها لا نعترف حتى بوجودها على وجه الأرض».
البعض يقول بأن ذلك يحصل حتى تمنع الوكالة من إطلاع عموم الناس على التفاصيل الدقيقة والمعلومات التفصيلية التي تعطيها صور الأقمار الصناعية عن الأرض، والتي تكشف حتى عدد ونوع الأشجار والأمراض التي فيها “في صورة غابة مثلا”.
بعض العلماء الأمريكيين من خارج الـCIA، اطلع على بعض من أرشيف الوكالة وأصيب بالدهشة، معتقدا بأنه «يبدو أن فهم كل التغيرات الجوية الحاصلة في العالم ممكن الآن».
حسب قول البعض، إعلان مثل هذه المهام هو الذي يساعد الـCIA، على إقناع الكونجرس بميزانيته البالغة 28 بليار دولار أمريكي.
بقي أن نقول أن إطلاق أقمار التجسس الصناعية حصل في أواخر الخمسينات الميلادية، حينما أطلق قمر «كورونا»، ضمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتيي، وذلك بعد أن أخبر الرئيس الأمريكي إيزنهاور، أن السوفييت يعملون على بناء طائرات عسكرية متقدمة من نوع معين.
وحينذلك كشف القمر «كورونا»، أن الاتحاد السوفيتي متقدم على الولايات المتحدة في هذا النوع من الطائرات.
مع إطلاق القمر وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي اتفاقية لمنع الطائرات الاستكشافية بينهما، فيما بقيت قدرات القمر «كورونا»، والذي يغطي 15 مليون ميل مربع من الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا، سرا لايعلم عنها السوفييت شيئا لفترة طويلة، إلي أن حصلت حادثة الصواريخ السوفيتية المزروعة في كوبا التي كشفتها أقمار التجسس في عهد الرئيس كندي، وسببت أكبر تأزم بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا في تاريخ الحرب الباردة.
هذه الحادثة دعمت فكرة إطلاق أقمار التجسس الصناعية، وبدأت «ناسا» تطلق هذه الصواريخ الواحدة بعد الأخرى، حتى أن بعض المصادر قدرت أنه كان يطلق صاروخ كل شهر تقريبا.
* نُشر في جريدة المسلمون الدولية