لاتزال قوات حلف الناتو المشتركة تواصل ضرباتها الجوية للأهداف العسكرية في يوغسلافيا دون وجود أي تغيرات جذرية تبين كيف سينتهي مثل هذا القصف، وما إذا كانت عملية الناتو ستختم بشكل يضمن لمئات الآلاف من اللاجئين الكوسوفيين العودة الآمنة لديارهم كما يعد مسؤولو الناتو.
البادرة الوحيدة التي نشطت هذا الأسبوع هي المحادثات الأمريكية الروسية، والتي نشطت بعد مكالمة هاتفية مطولة للرئيس الأمريكي بيل كلينتون، مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين.
يلتسين، أرسل مبعوثه فيكتور تشيرنوميردين، إلى واشنطن، ليلتقي يوم الإثنين الماضي مع الرئيس الأمريكي في محاولة لتقديم عروض جديدة لإنهاء المشكلة بشكل يحفظ وجه ماء يوغسلافيا وروسيا ويضمن للناتو إعلانها بنجاح مهمتها في يوغسلافيا.
مصادر الناتو تقول بأن روسيا قد توافق في النهاية على قرار لمجلس الأمن يتمحور حول إرسال قوات عسكرية دولية مسلحة لكوسوفا تشرف على عودة اللاجئين الكوسوفيين، حتى لو رفضت يوغسلافيا القرار والتوسط الروسي.
المصادر نفسها تشير أن روسيا أصبحت الآن مقتنعة بحجة الناتو بأن أي حل لا يتضمن وجود قوات لحلف الناتو في كوسوفا هو حل عقيم ولافائدة منه.
هذه البادرة بدأت بعد أن اختتم حلف الناتو احتفالاته بواشنطن بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس الحلف وبحضور زعماء دوله الـ19.
الاحتفالات والإعلان الصادر عن اجتماع رؤساء دول الناتو هي حسب تحليلات عدد من الخبراء والكتاب الأمريكيين إعلان عن تأسيس قوة عالمية جديدة، وليتم تنظيم العالم بشكل جديد يمثل فيه الحلف بقيادة الولايات المتحدة الزعامة السياسية والعسكرية.
كثير من هذه الكتابات بدأت تشكك في أن قصف يوغسلافيا هو مجرد مناسبة رسمت في توقيت معين بهدف إيجاد حدث عسكري يبدأ من خلاله توجيه رسالة للعالم عن انطلاق هذه القوة الجديدة.
الإعلان الصادر عن الاجتماع بواشنطن والذي تضمن التأكيد على الدور الجديد للناتو ويسمح لها بالتدخل في مختلف المناطق في العالم لمنع «أي كوارث إنسانية أو سياسية أو عسكرية» يشير عن رؤية واسعة للدور الجديد الذي ستقوم به الناتو حول العالم.
بالمقابل، يتوقع عدد من الخبراء الأمريكيين أن تهدأ وتيرة التركيز على الناتو بعد انتهاء الأزمة اليوغسلافية لفترة من الزمن، بحيث يبدأ تعميق دور الناتو في المستقبل بشكل هادئ وتدريجي.
الدور الجديد للناتو يعاني من العديد من المصاعب بالرغم من الهالة الإعلامية التي تحيط به.
أبرز هذه المصاعب هي الصراع الخفي والمستمر بين الولايات المتحدة وبين الدول الأوروبية التي يزعجها قيادة الولايات المتحدة لحلف الناتو دون الالتفات لرغبات حلفائها الأوروبيين.
فرنسا بالذات عبرت في الأسابيع الأخيرة عن الحاجة لناتو جديد يؤكد تعدد الأقطاب وليس القطب الواحد، وبالرغم أن هذه العبارات كانت شديدة الاستفزاز للأمريكيين إلا أن الرئيس كلينتون، حاول تجاهل ذلك خلال الاحتفال الأخير بواشنطن، مؤكدا على مفهوم «الأمن الجماعي».
الفرنسيون بالمقابل حاولوا بطريقة أو بأخرى الإشارة أنهم يرفضون أن تكون الناتو «شرطي العالم».
قضايا أخرى اقتصادية وسياسية مطروحة على طاولة أحاديث زعماء الناتو والذين يأخذون مواقفا شديدة التباين حولها.
نصف مليون لاجئ
في الوقت الذي تستمر فيه الضربات الجوية، لازال أكثر من نصف مليون لاجئ يعيشون في العراء معتمدين كلية على المساعدات الإنسانية التي يتلقونها من مختلف دول العالم ومنتظرين اللحظة التي يمكنهم فيها العودة أخيرا إلى بلادهم.
في هذا الأسبوع بدأت عدد من الدول الأوروبية بالإضافة لأمريكا بالخطوات الأولى لخطة نقل أعداد من هؤلاء اللاجئين إلى أراضيها مع التركيز على أن ذلك سيكون «مؤقتا» حتى تنتهي الأزمة اليوغسلافية ويمكن تأمين عودتهم إلى ديارهم.
في الوقت نفسه، مازالت الناتو تسير في خطوات ثابتة للوصول إلى عزل كامل ليوغسلافيا وشمل ذلك قرار الأسبوع الماضي بقطع أي إمدادات بترولية عن الدولة، وهو قرار وافقت عليه كل دول الاتحاد الأوروبي والدول المنتجة للبترول في مختلف أنحاء العالم باستثناء روسيا، والتي اعترضت على القرار وطلبت مناقشته في مجلس الأمن.
لكن رفض روسيا لن يكون له تأثير كبير، لأن أنابيب البترول الممتدة من روسيا إلى يوغسلافيا تمر بسلوفانيا والتي وقعت على الحظر، ولا يوجد حاليا أي وسيلة أخرى لنقل البترول من روسيا إلى يوغسلافيا.
حملة التضييق علي صربيا شملت أيضا قرارا للرئيس الأمريكي، صدر يوم السبت الماضي، يمنع تماما أي تعامل تجاري أو تحويلات مالية مع صربيا، وكان المنع في السابق مقتصر على الصناعات العسكرية والخدمات البنكية.
الحملة الجوية ضد يوغسلافيا ركزت هذا الأسبوع من خلال حملاتها التي تزيد عن 600 مهمة يوميا على محطات الإذاعة والتلفزيون ومحطات الكهرباء وعلى الطرق السريعة والجسور، بالإضافة لمختلف الأهداف العسكرية وشبكات الاتصال الخاصة بالجيش، وذلك كما يبدو بهدف إضعاف قدرة الحكومة اليوغسلافية على التأثير على مواطنيها وبهدف إضعاف حركة الجيش اليوغسلافي.
هل هذا في النهاية سيحقق «النصر» للناتو؟
قائد قوات الناتو العسكرية اعترف في تصريح صحفي بأنه بعد خمسة أسابيع من الضربات الجوية المتتالية فإن قوات الناتو فشلت حتى الآن في تقليل حجم القوات اليوغسلافية في كوسوفا وعملياتها الإجرامية ضد البقية الباقية من الكوسوفيين.
حسب هذا التصريح وتصريحات القادة السياسيين للناتو، يبدو أن الهدف هو جعل ميلوسفيتش، يحس بالحاجة الملحة للجلوس على طاولة المفاوضات من أجل الحفاظ على استمرارية نظام حكمه.
ماذا سينتج من المفاوضات وكم ستستمر هو سؤال مزعج للجميع، لأن طبيعة المفاوضات السلمية مع تدخل أطراف كثيرة فيها تأخذ وقتا طويلا هو في الوقت نفسه محسوب على اللاجئين اليوغسلافيين الذي يعانون يوميا بسبب أوضاعهم المعيشية الحالية.
يوغسلافيا من جهتها تتبع عددا من الاستراتيجيات السياسية لمقاومة الضربات الجوية، أهم هذه الاستراتيجيات على ما يبدو من تسلسل أحداث الأسبوع الأخير هو استعطاف شعوب دول حلف الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ضد القصف الجوي لها.
هذا الاستعطاف بدا واضحا من خلال الإفراج عن الجنود الأمريكيين الثلاثة الذين تم أسرهم لمدة 31 يوما، وما صاحب هذا الإفراج من حملات إعلامية وخاصة أن رئيس الوفد هو جيسي جاكسون، ذو الشعبية الواسعة في أمريكا.
أيضا قامت يوغسلافيا باستضافة عدد كبير من الصحفيين الأوروبيين والأمريكيين والذين نجحت الحكومة الصربية في جذبهم للمواقع التي أصيب فيها مدنيون من الصرب وجعلهم يأخذون صورا ذات تأثير إنساني في الجمهور المتلقي للإعلام الغربي.
مثل تلك الصور تترك زعماء الناتو في إحراج يومي لا يحسدون عليه عند سؤالهم عن «الأبرياء» الذين أصابتهم صواريخ الناتو التي ضلت عن إصابة أهدافها العسكرية المحددة لها.
في العاصمة واشنطن، تتردد أنباء عن إمكانية تعاقد الحكومة اليوغسلافية مع مكاتب إعلامية لبذل حملة إعلامية لتحسين سمعة صربيا في أمريكا وجذب التعاطف الأمريكي معها.
ما يدعم هذه الأنباء هو التزايد الكبير والمفاجئ للرسائل المرسلة للصحف والمجلات الأمريكية والتي تحمل اعتراضا شديدا على القصف الجوي، بالرغم أن استفتاءات الرأي في أمريكا تدل على دعم شعبي أمريكي عام للضربات الجوية ودعم نسبي لدخول القوات الأرضية في المعركة.
من الدلالات الأخرى المثيرة للانتباه أن بعض جهات اللوبي اليهودي في أمريكا بدأت في حملة إعلامية مركزة لصالح إيقاف الضربات الجوية على الصرب، وكان رائد هذه الحملة أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي اليهود والذي سافر لصربيا بدعم من أحد مؤسسات اللوبي اليهودي والتقى بالمسؤولين الصرب وعاد ليبدأ حملة إعلامية لصالح الصرب في أمريكا.
عضو الكونجرس هذا واسمه جيم ساكسون، كان قد دخل سابقا في عدة معارك مع الجالية المسلمة في أمريكا بسبب اتهاماته الدائمة للمؤسسات الإسلامية بأنها مؤسسات إرهابية، ولكونه عضو في منظمة «فاير»، والتي ترعى نشر إعلانات ضخمة في الصحف الأمريكية ضد العرب والمسلمين.
الحملة التي تنظمها يوغسلافيا لم تذهب هباء كما يبدو فقد صوت الكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي على منع الرئيس الأمريكي من اتخاذ قرار شن الحرب البرية ضد يوغسلافيا بدون موافقة مسبقة من الكونجرس.
وإن كان بعض المحللين السياسيين يرون أن هذا القرار هو جزء من المعركة الدائمة بين الرئيس الأمريكي والكونجرس ذي الأغلبية الجمهورية المعارضة.
القرار حتى يصبح قابلا للتطبيق الكامل لابد من التصويت عليه في مجلس الشيوخ الأمريكي ذي الأغلبية الجمهورية أيضا، لكن عددا من شخصيات مجلس الشيوخ من الجمهوريين طالب بعدم التصويت الإيجابي على القرار، لأن هذا سيوجه رسالة للعالم الخارجي وخاصة لأعضاء حلف الناتو بوجود خلخلة سياسية في صناعة القرار الأمريكي.
* نُشر في مجلة اليمامة السعودية