إذا كنت متابعا للتعليقات على المواقع المصرية قبل الأحداث الأخيرة وترى السجال الناري الملئ بكل أنواع الشتائم والدعاء الغاضب بين مؤيدي الرئيس مرسي حينها وبين الرافضين له، هل كنت ستتوقع أن هؤلاء الأشخاص لو التقوا في الشارع سيكون لقائهم حضاريا ولطيفا؟
الجواب في الغالب لا، فتلك التعليقات كانت تدل على غضب كامن، وهو مؤشر هام على ما يحدث داخل مجتمع معين ومدى انقسامه أو تقبله لتعدد الأفكار، وقد انفجر هذا الغضب وتترجم إلى صراع غير إنساني على الأرض بعد 30 يونيو.
لكن مشكلة استخدام الكلمات الشرسة والغاضبة والهجوم على الآخر ليست مشكلة خاصة بحالات مثل الحالة المصرية أو العراقية أو اللبنانية، بل هي موجودة بدرجات مختلفة في كافة أنحاء العالم.
أحد أسباب ذلك ما صار معروفا أن استخدام الأسماء المستعارة أو الشعور بالأمان خلف شاشة الكمبيوتر بعيدا عن الضغط الاجتماعي “حتى مع استخدام الأسماء الحقيقية” له سحره الأسود على كثير من الناس، فتظهر صفاتهم السلبية، ويتحول غضبهم الكامن إلى كلمات.
استخدام الأسماء المستعارة يساعد الناس على خلق “هوية سائلة” تتغير بتغير الأوعية، وليس لها من الصبر الكثير على التغيير والاختلاف. هناك مشكلة أخرى تحدثت عنها عدد من الدراسات الغربية، وهي أن الإنسان عندما يناقش شخصا على الإنترنت فهو في الغالب ينسى أنه إنسان، ويتعامل معه على أنه عنصر إلكتروني فقط، وهو ما يسمى باللا أنسنة أو “الشيطنة”، بل إن النظرية العامة أنه في حالات الصراع عموما، يبدأ الصراع بين المجموعات البشرية عند نزع الصفات الإنسانية عن الخصم، فتنسى أنه إنسان ضعيف وبسيط ذي قدرات محدودة وطموحات بشرية، ويملك عاطفة الأب وحب الزوج ورحمة الإنسان وقيم الدين.
نزع مثل هذه الصفات عن الخصم يصبح ضروريا في العقل الباطن حتى يمكنك أن تهاجم بلا هوادة ولا رحمة.
هذه “الشيطنة” أمر يزداد في حالة الحوار الإلكتروني، لأن عدم مشاهدتك لمعالم وجه الإنسان أمامك، ونظرات عينيه، يسهل على العقل الباطن هذه “الشيطنة”، ويتخيل الإنسان الأسوأ عن خصمه القابع في الطرف الآخر من الوصلة الإلكترونية.
لا أنسى يوما عندما أسس شخص موقعا على الإنترنت للهجوم علي، ولما اتصلت على هذا الشخص هاتفيا وقلت له بلطف أريد مناقشتك فيما كتبت، خجل كثيرا مني، وقام بحذف الموقع مباشرة من الإنترنت، وصار بعد ذلك من الأصدقاء.
كيف يمكن علاج مشكلة التطرف اللا إنساني في الحوار الإلكتروني على الإنترنت والشبكات الاجتماعية وتطبيقات الموبايل ؟
هذا السؤال تزداد أهميته كل يوم مع ازدياد حجم التواصل الإلكتروني في حياتنا يوما بعد يوم، وتحول الإنترنت لوسيط أساسي لأي حوار وطني في السنوات الثلاث الأخيرة، وزاد في الغرب خلال الأشهر الأخيرة بعد أن تحولت المواقع لوسيلة للتهديد بالقتل والاغتصاب ضد الشخصيات العامة.
هذا الحوار صعد عدة مرات للسطح في الفترة الأخيرة، مرة بعد تقديم “تويتر” مطلع هذا الشهر اعتذارا رسميا من خلال إدارتها في بريطانيا للنساء الذين تعرضوا للتهديد بالاغتصاب من خلال “تويتر”، ثم جاء مرة ثانية بعد أن أعلن موقع “هفينجتون بوست” الإخباري الشهير عن أنه سيطبق خلال الشهر القادم قاعدة تمنع نشر تعليقات بدون الاسم الصريح للشخص.
خطوة “هفينجتون بوست” قوبلت بالانتقاد الإعلامي بشكل واسع.
- أولا: لأنه من الصعب التأكد من الأسماء الحقيقية، وهو هروب من المسؤولية القانونية للموقع.
- ثانيا: لأن تجربة “فيس بوك” حيث أكثر الأسماء والشخصيات حقيقية، تؤكد أن الناس لا تتغير طباعهم كثيرا وقسوتهم على بعضهم في الحوارات عندما يستخدموا أسماء حقيقية، وثالثا لأن هذا يعني حرمان ممن يقعون تحت ضغط اجتماعي أو سياسي معين من التعبير عن تجاربهم الحقيقية.
هناك طبعا الحل المنتشر عربيا وهو الرقابة على التعليقات، ولكن هذه الرقابة لا تعتبر مقبولة غربيا لأنك تحتاج معايير دقيقة جدا فيما ينشر ولا ينشر، ولأن تكلفتها المالية كبيرة بالنسبة للمواقع الضخمة، هناك مواقع جديدة تحاول وضع أفكار تسمح للتعليقات الجيدة والمفيدة أن تأخذ إبرازا أفضل، لكنها أفكار لم تحقق نجاحها بعد.
في الوضع الطبيعي، يفترض أن يكون القانون في كل دولة هو المعيار، فما يمنعه القانون من أمور في الحوار العادي – مثل الشتائم – يفترض أن يمنع إلكترونيا، ويفترض أن تكون هناك حلول تقنية تعطي لسلطة القانون القدرة على الوصول للشخص صاحب التعليق لمعاقبته ومحاسبته عند الشكوى عليه من الشخص الآخر.
لكن هذا الحل غير منطقي كثيرا، لأن الفضاء الإلكتروني الواسع يقع بين حدود الدول، ولأن هذا الحل سيساء استخدامه في الدول التي لا تحترم حكوماتها القانون وتستخدم هذه الحلول للاضطهاد بشكل عام.
في رأيي، يجب أن تفعل المواقع الكبرى هذا الحوار، وتنتهي بوثيقة عالمية تنص بوضوح على ما يسمح بنشره وما لا يسمح بنشره، ويتم توزيع ذلك بشكل واسع، ثم يبدأ التفكير البشري في إيجاد حلول لتطبيق هذه الوثيقة.
تذكر دائما: الإنسان يبقى إنسانا
* نشر المقال في جريدة الوطن السعودية