من يتأمل ما يحصل في مصر منذ انتهاء حكم الرئيس مبارك يدرك بسهولة أن المصريين ما زالوا في مرحلة “تفريغ” إحباطات وغضب السنين الماضية، فالمظاهرات والتغطيات الإعلامية تعيش في الماضي، وكأن حكم مبارك لم ينتهي بعد أو أن الثورة انتهت قبل أوانها.
من ناحية أخرى، هناك كل الذين يحاولون “اقتناص الفرصة” السياسية القادمة في الحكومة التي ستأتي، مع كمية هائلة من استثمار الموارد والطاقة البشرية في اللعبة السياسية.
لكن بالتأكيد، لا تجد الجهد الكافي والملائم للتغير الحقيقي الذي مرت به مصر.
مصر ما زالت تعيش في كم خرافي من المشكلات التي تراكمت بلا علاج عبر السنين، وهذه المشكلات تحتاج لأمة تعمل ليل نهار صفا واحدا مع وضوح في الأهداف والخطط ومع وجود روح وطنية شاملة ممتزجة مع أرواح الناس الذين يحاولون صنع الإنجاز.
هذه الروح هي التي صنعت الحضارة الغربية وهي التي صنعت دول آسيا، وهي فقط ما يمكن أن يحول مصر من دولة الماضي ذي المشكلات والفقر والتخلف إلى مصر التي يحلم بها المصريون من ناحية، ويحلم بها العرب الذين يتمنون أن تتحول مصر إلى المثال الذي يؤثر إيجابيا في كافة أنحاء العالم العربي.
حتى على المستوى السياسي، هناك بعض الأفكار العامة عن الديمقراطية، ولكن ما زال هناك كمية هائلة من التفاصيل التي تكون بمجموعها النظرية الديمقراطية التي ستحكم النظام السياسي في الدولة وتحميه من الانتكاسة.
لا يكفي أبدا أن تتحدث عن الديمقراطية لتطبقها بل إن إيجاد حالة من التعددية المتناسبة مع ثقافة الشعب المصري المسلم، والمتناسبة أيضا مع وضع مصر السياسي والاجتماعي يحتاج لجهد هائل من نخبة مصر من المثقفين والمفكرين للإجابة على هذه الأسئلة، فيحددوا مثلا دور الدولة، ودور الجيش – الذي صار لاعبا جوهريا في المشهد – ودور المجتمع المدني ودور المعارضة وكيف ستعمل كل القوى على النهضة بمصر من أعباء الماضي وقسوة المشكلات، وكيف سيتعايش الجميع في مصر ضمن إطار وطني واحد، وغير ذلك من القضايا، ثم إن على هذه النخبة أن تقف صوتا واحدا وراء هذه الأجوبة لإقناع الشعب بها حتى تتكون ثقافة سياسية عامة تنبني عليها نهضة مصر.
لما انتهت الثورة الفرنسية كان لدى الأوروبيين رصيد ثقافي ضخم يرسم شكل المستقبل السياسي وشكل الحضارة التي يريدونها لأنفسهم، وكانت صدور الناس التي تلقت الموت لأجل الثورة تعرف لأي مستقبل تموت، أما الثورة المصرية فهي ثورة التخلص من الواقع السيء، دون أن يعرف الثوار شكل المستقبل سوى أنه مستقبل مشرق خال من “الفساد”.
إن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد، والمصريون يحتاجون اليوم لمليونيات مختلفة عن مليونيات الغضب على الماضي، فهم يحتاجون “مليونية العمل ومليونية محاسبة النفس” كما قال الصديق أيمن شكري، على حسابه في “تويتر”.
الثورة الحقيقية تبدأ عندما يبدأ الحل الحقيقي للمشكلات وعندما تدور عجلة الاقتصاد، وعندما يكون هناك وضوح كيف ستصبح مصر دولة لها من القيادة والوهج ما تستحقه، وعندما تبدأ نخبة مصر بوضع الأطر الثقافية والفكرية لمصر المستقبل.
الثورة الحقيقية عندما يستيقظ المصريون من النوم كل صباح وهم يعرفون أن لديهم الكثير من الجهد ويعرفون الطريق لبذله وأين سينتهي بهم المطاف.
المصريون معروفون بإنعزالهم الثقافي وانغلاقهم على أنفسهم – حتى لو ظهر أحيانا غير ذلك -، وأعتقد أنهم في هذا الظرف التاريخي يحتاجون للانفتاح على النخب العربية والعالمية الأخرى، لأن صناعة إطار فكري مستقبلي سياسي واجتماعي يحتاج لكل العقول ولكل وجهات النظر ولكل الخبرات، ولأن مصر بذلك ستجعل كل العرب جزءا من حلمها المستقبلي، وهذا تحد آخر لا بد للمصرين من التعامل معه.
إن ما تعيشه مصر فرصة تاريخية نادرة من نوعها، ولو استطاع العقلاء قيادة الناس للاستفادة الحقيقية من الفرصة فإن كل التفاؤل والفرح الذي عشناه خلال أيام الثورة سيكون له معنى، وستتحول مصر إلى القصة التي غيرت وجه القرن الحادي والعشرين في العالم العربي.
مصر كانت الحافز لشعوب عربية أخرى تعاني من أنظمة فاسدة لتنتفض ضد الفساد والظلم والكيانات المتهالكة، ولو استطاعت مصر أن ترسم خطة الطريق كيف يكون البناء بعد الهدم وثورة العمل بعد ثورة الغضب، فهي ستكون قدوة للجمهوريات العربية الأخرى التي تحاول البحث عن حريتها.
حتى يحصل ذلك كله أو بعضه، فإن الثورة المصرية لم تبدأ بعد..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية