ربما سيكون من الصعب على كثيرين أن يفهموا سر الحزن المفاجئ الذي غمر الناس في مختلف أصقاع الكون لما استيقظوا على خبر وفاة رئيس شركة Apple، ستيف جوبز.
ربما لم يحصل مثل هذا الأثر من قبل لرئيس شركة تكنولوجيا في التاريخ، وقد لا يحصل لغيره أيضا، لأن أحدا لم تحصل له فرصة أن يلمس حياة الناس بمنتجاته ويسلب إعجابهم ويبني قاعدة من “المخلصين” لشركته مثله.
لقد أحضر ستيف جوبز، جهاز الكمبيوتر الشخصي إلى حياة الناس، ثم غير من خلال iTunes وiPod صناعة الموسيقى في جوهرها وإلى الأبد، ثم جاء من خلال الـiPhone ليغير عالم الموبايل ويقف على القمة خلال أشهر، ثم أتى بالـiPad ليمزج عالمي الكمبيوتر والموبايل في عالم واحد، وأخيرا أعلن عن الـiCloud والتي لو استطاع ستيف جوبز إنهاءها لأحدث تحولا ضخما في عالم الإعلام والمحتوى، وهو أمر سأتحدث عنه في مقال قادم.
هذا كله، والعالم ينسى أثره على صناعة الإنتاج السينمائي الكرتوني من خلال تأسيسه لشركة بيكسار والتي أحدثت ثورة في الإنتاج الكرتوني، جعلتها تملك بعض أهم الأفلام الكرتونية في العالم.
كيف استطاع ستيف جوبز تحقيق كل ذلك في فترة قصيرة نسبيا ؟ ما هي أسرار عبقريته ولماذا عشقه الناس بهذا الشكل وحزنوا عليه لما مات ؟
ربما كانت أقوى آثار ستيف جوبز، على العالم قدرته الفائقة من صناعة المفاجآت.
عندما تعلن Apple عن استعدادها لإطلاق منتج جديد، فكلنا ننام ونحن نعرف أن حياتنا قريبا ستتغير من خلال فكرة جديدة رائدة، ربما كان لهذا سبب في حزن الناس على ستيف جوبز، فالعالم لم يعد فيه ذلك الرجل الذي يقدم لنا المفاجآت التي تغير حياتنا وتجعلها أجمل دائما.
كان ستيف، ديكتاتوريا في شركته، مما جعلها تتمحور حوله، ولكنه كان عاشقا للإتقان بشكل متطرف فيه وكان يتألم بغضب من النقد عندما يجرح الإتقان، وكان حب الإتقان حادا في فترته الأولى مما حدا برئيس مجلس إدارة Apple لطرده من الشركة، ولما عاد إليها كان أكثر نضجا، ولكن دون أن يتخلى لحظة عن الإتقان المطلق في منتجاته، لكن السر الحقيقي في نجاح Apple هو الإيمان العميق بمزج الفن والتصميم بالتكنولوجيا.
شركات التكنولوجيا دائما تعاني من هذا التركيز التقني البحت دون القدرة على خلق الجاذبية بين المنتج والجمهور، هناك دائما محاولات ولكنها ضعيفة، لأن العقل التقني يبقى غالبا مسيطرا.
ستيف، كان مختلفا، لأنه كان فنانا، وكانت عينه تعشق المكنونات الجمالية في الأشياء من حوله، واستطاع بسبب ذلك أن يحول منتجات Apple إلى منتجات لها شخصية فنية بحيث تصبح صديقة لنا في حياتنا، نستمتع بالتفاعل معها، وتؤنسنا في لحظات وحدتنا، ولا نمل أبدا من النظر إليها.
لاحظ أن التصميم الخارجي ليس هو كل شيء، هناك شركات كثيرة تحاول منحك تصميم جميل من الخارج، ولكن الجمال الذي اعتمده ستيف جوبز، وحقق له نجاحه الطاغي هو إيمانه بالجمال الشامل، بحيث تصبح كل التفاصيل جزءا من تجربة متكاملة يخرج بعدها المستخدم في مرحلة من النشوة والسعادة التي تربطه بالمنتج لفترة طويلة جدا، وتجعله مخلصا لشركة أبل ولكل منتجاتها.
تركيز Apple على “التجربة الشاملة” – إذا صح التعبير – انعكس أيضا على الشركات التي تتعامل معها، لأن ستيف جوبز، حرص أن يكون هناك بساطة وجمالية حتى في كيفية شراء الناس لمنتجاته وحتى في كيفية تعامل الشركات مع شركته.
لما تم إطلاق iPhone وتم إحداث App Store، أي المتجر الإلكتروني الذي يتم شراء التطبيقات منه، غير ستيف جوبز، عالم الموبايل خلال أشهر، لأن هذه التطبيقات فتحت الباب بطريقة سهلة وذكية جدا ومنظمة ليقدموا تطبيقاتهم للناس في مختلف أنحاء العالم ويحصلوا على المال منها “كما تحصل Apple أيضا على دخل إضافي بالمليارات بسببها”.
من جهة أخرى، كانت تجربة الناس سهلة في التعامل والشراء من هذه المنتجات، وأمرا ممتعا لهم، وأقبلوا عليها وكأنه لم يكن هناك تطبيقات للموبايل من قبل، ونجحت Apple حيثما فشلت قبلها شركات Nokia وBlackBerry وMotorola، وفشلت شركات الاتصالات، ونجح ستيف جوبز، بنفس الطريقة تماما سيطرت Apple على مبيعات الموسيقى في أمريكا من خلال iTunes.
هناك أسرار كثيرة لعبقرية ستيف جوبز، ولكنني أحببت أن أركز على هذا الجانب لعله يكون مفيدا لمئات الشباب ورجال الأعمال العرب الذين يخلقون منتجات على الإنترنت والموبايل كل يوم دون أن يلتفتوا لأهمية التجربة الشاملة والإحساس الفني المرتبط باستخدام منتجاتهم.
في الحقيقة، ما زالت اللغة العربية لا تحتوى مصطلحا متداولا يشير لهذه التجربة (User Experience) وهذا يوضح بالتأكيد إهمالنا كعرب في مجال التكنولوجيا والإعلام الرقمي وفي مجال التسويق عموما لهذا الجانب.
أختم بمعلومة طريفة وهي أن عددا من المقالات التي أشارت لـ”ستيف جوبز”، قالت بأن جزءا من عبقريته يأتي من جيناته، والدليل على ذلك أن أخته التي لم يعرفها إلا بعد عقود من الزمن هي واحدة من أهم الروائيات في أمريكا.
أخته منى، تربت مع أبيها عبداللطيف الجندلي، من مدينة حمص السورية، وأمها الأمريكية، بينما ستيف، الذي جاء من علاقة سابقة للزواج تم تبنيه من أسرة أرمنية، عاش معها وبقي ولاءه لها طبعا، وهي الأسرة التي غيرت اسمه العربي “سمير” إلى “ستيف”.
لك أن تعرف أخيرا أن الطفل سمير، لم يجد له والداه من يتبناه بسهولة بسبب شكله العربي في الخمسينات الميلادية، ولذلك لجأوا أخيرا إلى الأسرة الأرمنية لتنبيه..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية