كان واضحا لمن يستمع لبشار الأسد في حواره مع باربارا والترز الأسبوع الماضي أنه تتلمذ على مدرسة قديمة تأسست قبل عقود طويلة من الزمن، وهي تلك التي تؤمن بأن الرسالة التي يبثها الإعلام لها تأثيرها حتى لو كانت كاذبة أو ضعيفة ما دامت تتكرر بشكل مكثف في كل مكان.
هذه النظرية كانت لها مصداقيتها لأن الإعلام كان قائما على مرسل جماهيري “التلفزيون أو الصحافة أو الإذاعة”، وعلى أفراد يستقبلون هذه الرسائل، وهم يتأثرون بهذه الأفكار والمعلومات التي تصلهم ويصدقونها في النهاية.
نسبة عالية من الناس – كما تؤكد الدراسات – لديها ضعف في “التفكير النقدي”، أي أنهم في الغالب لا يرون بسهولة مشكلات الرسالة التي تصلهم وذلك بسبب جهلهم أو انشغالهم أو عاطفيتهم أو لأنهم لم يدربوا أنفسهم على النقد والتساؤل، ولكننا في عصر الإعلام الاجتماعي حيث يتفاعل الشخص على “فيسبوك” أو “تويتر” مع عشرات الناس فإن هذه الأمر قد تغير جذريا، لأن الدراسات الإعلامية والواقع يؤكدان أن الناس عموما يميلون لتصديق الرسالة التي تصلهم من إطار “الأصدقاء” أكثر من تصديقهم لرسالة تصلهم من الإعلام بشكل مباشر.
هذا التواصل الاجتماعي يفتح عيون وآذان الشخص فتصبح لديه مناعة على تصديق الرسائل، وهناك بعض الأبحاث الأمريكية الحديثة التي تؤكد أن هذه المناعة تصبح من القوة بحيث ينقلب الشخص على الرسالة الإعلامية الأصلية ويصبح عدوا لها إذا كان “الأصدقاء” يحرضونه على ذلك، حتى لو كان مؤهلا في الأصل لقبولها والإيمان بها.
هذا التأثير الرهيب غير المسبوق وغير المتوقع للإعلام الاجتماعي غير من نظريات “الاتصال السياسي” وأربك الأكاديميين ومسؤولي الحملات الانتخابية، وصار كل مسؤول سياسي يتجاهله يعيش في مأزق حقيقي وخاصة إذا لجأ لما يسمى لدى مسؤولي الحملات بـ”الكذب السياسي”.
في التسعينات الميلادية، درست الماجستير في أمريكا في مجال الحملات الانتخابية، وركزت على دور الإنترنت في أبحاثي، وكان الأمر يبدو للجميع ورديا لأن الإنترنت جاء ليدعم قدرة السياسي على إيصال رسالته، وكان مدراء الحملات يقولون: “أعطني المال وأعطيك نصرا سياسيا”، وذلك لأن المال كان يعني حملة انتخابية ناجحة بحكم أنهم تعلموا كل فنون صناعة النصر السياسي.
ما زلت أتواصل مع بعض هؤلاء، والعبارة الآن تغيرت تماما لتصبح – كما أصيغها – “اصنع جماهير لك على الإنترنت وهم سيعطونك النصر السياسي تلقائيا”، وهي الحكمة التي توثقت مع تجربة أوباما التاريخية مع الإعلام الاجتماعي في حملته الرئاسية.
إن من يتحدثون عن تأثير الإعلام الاجتماعي على الربيع العربي يذكرون فقط قدرة “فيسبوك” و”تويتر” على صناعة الجماهير، ولكنهم يجب أن يتذكروا أيضا قدرة الإعلام الاجتماعي على إضعاف الرسالة السياسية التقليدية، التي لا تأخذ بالاعتبار ما تقوله الجماهير على الإنترنت.
لقد انتهت “نظرية الرصاصة” وغيرها من نظريات التأثير الإعلامي الكلاسيكية، وصار على أكاديمي الإعلام أن يطوروا نظريات جديدة تتعامل مع وضع قائم فيه “مرسل جماهيري” و”مستقبل جماهيري”، بينما الشخص يمكنه أن يكون مرسلا ومستقبلا في نفس الوقت.
أنظر لكيفية تعامل جامعتي الملك سعود والملك عبدالعزيز مع الأزمة الإعلامية التي واجههوها مطلع هذا الأسبوع، كان هناك حالة تخبط ورسائل ضعيفة ومتأخرة وقدرة محدودة على فهم ما يقوله الناس، وسيطرت جماهير “تويتر” على الموقف، بينما ركزت الجامعتين على الصحف والإعلام التقليدي لتوصل رسالتها الرسمية والضعيفة.
عصرنا الجديد يحتاج لرسالة تتظاهر بالصدق على أقل حال، تمنح الجمهور التفاصيل، وتتحدث إليهم بحميمية أملا في أن تدخل دائرة الأصدقاء، وتعرف أنه لم تعد هناك جماهير تستمتع وتطأطأ برأسها مصدقة، لأن الجميع صار يستقبل رسائل كثيرة تشوش على الرسالة الأصلية وتقضي على فعاليتها تماما.
بمعنى آخر، إذا لم تؤمن باحترام عقول الناس، فعليك أن تحترم وتراعي العقول التي تؤثر فيهم على مدار الساعة من خلال الإعلام الاجتماعي.
هذا بطريقة ما يشرح رسالة الأمير مقرن بن عبدالعزيز عندما حذر الأسد من مصير القذافي، فالقذافي تعامل مع الجماهير كما عرفهم قبل الإنترنت، وهكذا فعل زين العابدين بن علي، واليوم يفعلها الأسد.
وإذا كان القذافي أذكى قليلا لأنه وجه رسائله على الأقل للقبائل التي ساندته في الأيام الأخيرة، فإن الأسد يتحدث بخطاب لم أعرف حتى اليوم لمن يوجهه، لداخل يعيش الجحيم، أم للخارج الذي تجاوز تماما احتمال تصديق النظريات السورية حول ما يحصل على أراضيها.