تخيل لو أن سفيرا أو مسؤولا في وزارة الخارجية في دولة ما يحمل معه BlackBerry طول الوقت، ومعه على “المسنجر” عدد من السفراء الآخرين ووزراء خارجية ورؤساء منظمات دولية، يتبادل معهم الحديث طوال الوقت ويعالج معهم المشكلات السياسية، ويتبادلون خيارات التعاون الممكنة، ويتابع معهم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه سابقا.
تخيل أيضا لو أن السفير نفسه لديه حساب على “تويتر”، يكتب من خلاله ملاحظاته اليومية، والتي يتابعها ويتفاعل معها الشخصيات السياسية والسفراء الذين يهتمون بسير الأمور فيما يخص الدولة التي ينتمي إليها أو يعمل فيها ذلك السفير.
هذا باختصار يمثل وضعا مثاليا يعني أن العمل السياسي ينطلق بسرعة أكبر بكثير مما هي عليه الآن، حيث الأمور تعمل من خلال الخطابات الرسمية والاجتماعات والزيارات، ويعني أن يكون هناك حوار وتواصل مكثف بين من يعملون في مجالات السياسة الخارجية، ويعني أيضا أن الإنترنت طور العمل السياسي الدولي إلى مجتمع افتراضي لأولئك الذين يقودون العالم بشكل يومي.
ولكن هذه الصورة المثالية تصطدم بواقع من البروتوكولات الرصينة جدا التي تم تأسيسها عبر مئات السنين، والتي تعود عليها كل العاملين في السياسة الدولية، والتي رغم بطء حركتها، والكثافة الهائلة لبيروقراطيتها، وضعف قدرتها على إحداث التغيير، فإنها كـ”بروتوكولات” استطاعت أن تحمي الدول والسياسيين من أي تصرف غير مدروس بعناية ومن أي كلمة غير “دبلوماسية” إذا صح التعبير.
لقد تعودت الدول حول العالم أن تعمل من خلال “القواعد الرسمية” عبر الدبلوماسيين ووزراء الخارجية والمنظمات الدولية، بينما تعمل أجهزة الاستخبارات والمنظمات السرية خارج “القواعد”، ولذلك فإن إيجاد مثل هذا المجتمع الافتراضي سيحدث نوع من الفوضى في كل هذه البروتوكولات التي تنظم علاقة الدول ببعضها البعض.
في أمريكا هناك مجموعة من المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية لها رأي آخر، وهم يحاولون إيجاد ما يسمى بالدبلوماسية الرقمية Digital Diplomacy، وهذا أمر لم تتأسس قواعده بعد، ولكنه يعيش حالة نقاش مستمرة، حتى أن جريدة نيويورك تايمز أصدرت عدة صفحات كاملة عن الدبلوماسية الرقمية، أو العلاقات السياسية في عهد الإنترنت.
الجهود التي يبذلها الأمريكيون والأوروبيون لاستخدام تقنية الاتصالات الحديثة عبر وزارات الخارجية تنمو أكثر في اتجاه آخر، وهي العلاقة مع الشعوب والمنظمات غير الربحية والأحزاب المعارضة في الدول “غير الصديقة” عبر وسائل الاتصال هذه، ولذلك مثلا أعلنت هيلاري كلينتون، أن حق الاتصال بالإنترنت هو واحد من حقوق الإنسان الأساسية التي ستعمل أمريكا على حمايتها، وجاء ذلك بعد أيام من مشكلة Google مع الصين، والتي جاءت أيضا بعد فترة غير طويلة على الاستخدام غير المسبوق للثائرين الإيرانيين على أحمدي نجاد بعد الانتخابات الإيرانية لموقع “تويتر” في تنظيم مظاهراتهم واعتراضهم السياسي على الحكومة الإيرانية، ونقل رؤيتهم إلى العالم.
خلال هذه الأحداث، كانت “تويتر” قد أعلنت على إغلاق الموقع لفترة بسيطة للصيانة، وجاء تدخل وزارة الخارجية الأمريكية لإقناع “تويتر” بتأجيل هذا الإغلاق حماية للحوار الإيراني المعارض تأكيدا للاهتمام الأمريكي بجعل “تويتر” وسيلة تواصل دولية، ومناقضا لما كان قد أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من عدم تدخل الأمريكيين في الاضطرابات الإيرانية.
ليس من الواضح كيف ستؤتي جهود تطوير “الدبلوماسية الرقمية” أكلها في عالمنا المضطرب، ولكن الواضح أن العالم المتقدم يعمل بجد للاستفادة من التقنية التي صنعها في حماية أجندته السياسية الخارجية.
هناك موقع لوزارة الخارجية البريطانية عن الدبلوماسية الرقمية، ويعرفها بأنها استخدام الإنترنت في علاج المشكلات السياسية الخارجية، والتي سترى من خلالها أمثلة عديدة على استخدام الإنجليز لـ”فيسبوك” و”تويتر” والمدونات لدى السفراء والسفارات ووزارة الخارجية.
هناك أيضا كتاب باسم “الدبلوماسية الرقمية: السياسة الخارجية الأمريكية في عصر المعلومات”، والذي يشرح بالتفصيل هذه القضايا، وهناك ملف نيويورك تايمز الذي احتفي به كثيرا، ويحمل الكثير جدا من التفاصيل، وأخيرا هناك كتاب باسم “الدبلوماسية الرقمية: فهم الإسلام عبر العوالم الافتراضية”، والذي يقترح أفكارا عديدة لجهود تبذل عبر الإنترنت للتعامل مع “الظواهر الإسلامية” من وجهة نظر غربية.
لا أظن أن أحدا يخفي عليه أن السياسة قد تغيرت في عصر الإنترنت، ولكن الإنترنت بقدر ما يمثل أداة للغربيين فهو أيضا أداة للدول النامية التي تحاول حماية مصالح شعوبها في عالم يحكمه الأقوياء، وأظن أن العالم العربي بحاجة لهذا التفكير لأسباب عديدة جدا..!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية