يدور حاليا جدل في أمريكا وعلى مستوى عال وصل لرؤساء شركات الإنترنت الكبرى في أمريكا مثل “جوجل” و”فيسبوك” وApple بالإضافة لرؤساء شركات الاتصالات العالمية وذلك حول مبدأ اسمه “حيادية الإنترنت” Net Neutrality.
هذا النقاش من شأنه في حال أخذ اتجاهات معينة أن يغير حال الإنترنت كما تعرفه أمريكا اليوم ولاحقا كما يعرفه العالم كله.
حتى يومنا هذا، بقي الإنترنت إلى حد كبير “مفتوحا” بمعنى أن كل شخص، ما دام لديه اتصال بالإنترنت، لديه فرصة متساوية مع الآخرين للوصول إلى نفس المواقع واستخدام نفس الخدمات، وبمعنى أن تدخل الشركات التي تمنح الجمهور خدمات الاتصال بالإنترنت لا تتدخل _ لأسباب تجارية _ فيما يشاهده الجمهور وما لا يشاهدونه، أو بسرعة الاتصال بموقع معين على حساب موقع آخر.
لكن في ظل المنافسة الحادة بين شركات الاتصال بالإنترنت والمنافسة الحادة بين المواقع وفي ظل الاستهلاك الضخم لسعة الاتصال Bandwidth مع النمو السريع لمواقع الفيديو، فإن هناك حملة ضخمة في أوساط شركات خدمات الإنترنت _ وهي في غالب الأحوال شركات الاتصالات الكبرى _ لتغيير مبادئ شبكة الإنترنت بحيث يمكن لشركة الاتصال بالإنترنت أن تدعم مواقع معينة على حساب مواقع أخرى إما من خلال حجب المواقع الأخرى أو من خلال منح سعة اتصال أفضل للمواقع “الموالية” بحيث تصبح المواقع “المختارة” أكثر سرعة من المواقع التي لم توقع اتفاقات تجارية مع شركات الاتصالات.
لو حصل هذا فله إيحاءات كثيرة، أقلها أن شركات الاتصالات سيمكنها التدخل في مواقع الإنترنت وفرض رسوم عليها أو الحصول على نسبة من دخلها، وأهمها أن مجرد إنشاء موقع إنترنت مميز لن يكون كافيا لنجاحه لأن المدير التجاري في شركة الاتصالات قد يمنع الموقع من الجمهور لأنه قرر دعم موقع آخر ومنحه الظهور وسرعة الاتصال اللازمة.
صحيح أن هذا سيوفر مصدر دخل لمواقع الإنترنت الكبرى التي ستتسابق شركات الاتصالات عليها، ولكن هذا سيكون على حساب المواقع الصغرى، مما يعني في النهاية سيطرة الشركات الإعلامية والتكنولوجية العملاقة، والقضاء على ما أسميه بـ”الحلم الرقمي” Digital Dream، والذي يعني أن شخصا من بيته يستطيع أن يؤسس موقعا عملاقا ينافس الكبار بمجرد أن يكون موقعه ناجحا وجذابا للجمهور.
وإذا كانت أمريكا تخوض نقاشا حادا هذا الموضوع لوجود قوانين تنظم عملية حياد الإنترنت والعلاقة بين المواقع وبين شركات الاتصالات، فإن هذه القوانين لا وجود لها في معظم دول العالم الثالث، وستعني أن عالمنا العربي سيمر بالتجارب والآثار نفسها قريبا، متى ما قررت شركات الاتصالات خوض هذه اللعبة.
شركة الإنترنت الكبرى “فيسبوك” عارضت أي تأثير على حيادية الإنترنت، لأن استراتيجية موقع “فيسبوك” تقضي بالعمل الحثيث على أن يكون كل مستخدم للإنترنت في العالم مسجلا في “فيسبوك” بدون فوارق، ويساند الموقع في هذا الرأي مئات المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات حقوق الإنسان والحقوق المدنية، ومراكز الأبحاث التي ترى أن نمو الإنترنت مرهون بحياديته، وأن يكون كيانا افتراضيا واحدا وليس جزرا من الكيانات الافتراضية، إذا وقفت على أحدها لن يمكنك الاتصال بالأخرى منها.
بالمقابل قدمت شركة “جوجل” وشركة فيرايزون Verizon، أحد أكبر شركات الاتصالات الأمريكية، عرضا يحاول إمساك العصا من الوسط يقترح أن يكون الإنترنت حياديا للاتصال العادي بالإنترنت، وغير حيادي للاتصال اللاسلكي _ مما يعني الترخيص لشركات الموبايل بأن تفعل ما تشاء إذا أراد الشخص دخول الإنترنت من خلال الموبايل _ مع السماح أيضا لشركات الاتصالات بتقديم أو دعم خدمات “إضافية” خاصة بعملاء شركة الاتصالات لمساعدتها على ما يميزها في المنافسة عن شركات الاتصالات الأخرى.
هذا العرض لقي دعما هائلا من بعض شركات الاتصالات حديثا لأنها شعرت أنها ستخسر الجدل مع الذين يعارضون التأثير على حيادية الإنترنت، فيما كان ملاحظا أن عددا من الشركات الإعلامية العملاقة مثل نيوز كورب News Corporation والتي يملكها مردوخ، قد التزمت الصمت الكامل فيما افترض كثيرون أنه دعم لعرض “جوجل” وخاصة أن الشركة تعبر دائما عن انزعاجها من ضعف دخلها من مواقعها على الإنترنت.
هذا الجدل كله قد لا يأتي بنتيجة في ظل حكومة ديمقراطية أمريكية، وخاصة أن الديمقراطيين في عهد كلينتون _ على يد آل جور _ هم الذين تبنوا مبدأ “حيادية الإنترنت” وأصلوه في القوانين الأمريكية، وفي الغالب أن أوباما سيدعم نفس التوجه، ولكن النقاش قد بدأ ولن يتوقف، وسينتقل لكل دول العالم قريبا، بدرجات متفاوتة.
أمريكا أيضا تدعم مبدأ حيادية الإنترنت على مستوى العالم، وضغطت على الصين بشكل كبير في صراعها مع موقع “جوجل”، ولا يعتقد أنها ستتنازل بسهولة عن ذلك، لأن هذا يعني أن أي دولة تضع سعرا خاصا على دخول المواقع الأمريكية الكبرى مما يعني محدودية وصوله لعموم الجمهور..
إنها قضية عام 2010م في عالم الإنترنت بلا منافس..
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية