هل تستطيع أن تتخيل مجريات حياتك اليومية بدون الجوال أو القنوات الفضائية أو الإنترنت أو حتى جوجل ؟ لكثيرين يبدو هذا صعبا حيث تغيرت حياتنا وتمحورت حول التكنولوجيات الجديدة بشكل مذهل، وكأننا لم نكن هناك قبل أن تظهر كل هذه التطورات من حولنا.
العالم يتغير كل يوم، وهذا التغير يأتي بسبب البعد المادي والتكنولوجي، كما يأتي بسبب الظواهر العالمية مثل العولمة والنمو الاقتصادي المتسارع إلى الحد الذي سبب فيه خلل واحد أزمة اقتصادية عالمية.
الأفكار أيضا تنمو، فهناك كل يوم نظريات جديدة وفكر يتطور وهناك إجابات غير مسبوقة على الأسئلة المعتادة، وأسئلة جديدة تبحث عن إجابات. أي مقارنة فكرية موضوعية ستدرك في رأيي أن أفكارنا اليوم تختلف جذريا عن أفكارنا قبل عقدين من الزمن.
ولعل البعد الأهم في التغير، هو التغير الاجتماعي، والذي يمثل المرآة التي تنعكس عليها كل التغيرات الأخرى، حيث تمثل الظواهر الاجتماعية جوهر حياتنا اليومية والتمثيل الأهم لأفكارنا ومبادئنا، ومع ذلك فإن هناك الكثيرين من الكتاب ممن يتساءل لماذا يتغير المجتمع ويعبر باستياء عن هذا التغير، الذي لا يراه البعض إلا سوءا كله، ويطالبون ببذل كل ممكن للعودة لما كنا عليه، وكأن ذلك ممكنا جدا إذا تضافرت الجهود وتعاضدت القوى على ذلك.
وفي الحقيقة فإن التغير الاجتماعي يشبه تماما التغير بسبب التكنولوجيا أو الاقتصاد، هو تغير أزلي، لا نملك إلا أن نتعامل معه كما هو بحسنه وقبيحه، لأن التغير الاجتماعي هو عادة أكبر من الأفراد والتحكم به صعب جدا، ولا يمكن إلا تقييمه والبحث عن العوامل التي أدت إليه، واستكشاف الطرق التي تضمن أن يكون التغير إيجابيا في المستقبل.
قرأت كثيرا من المقالات التي تستاء من تغير الرؤى الدينية عبر الزمن، وهذا أيضا من سوء الفهم لما يحصل فالفتوى الشرعية مرتبطة بعرف المجتمع وبالزمان، وتغير الفتوى أمر طبيعي ولا يدل على مشكلة في العلماء أو المفتين، بل هو أمر قد حصل عبر القرون الأولى ويفترض أن يحصل _ مع المحافظة على الثوابت والأصول _ لأن هذا يعني الاعتراف بحقيقة أن حياتنا ومجتمعاتنا تتغير كل يوم.
هناك علم جميل اسمه “التغير الاجتماعي” Social Change، وإذا كانت لدي هواية مزمنة بالاطلاع على ما تدرسه الجامعات العربية من مواد دراسية فإنه لم يصادفني أن هذه المادة تدرس في جامعاتنا، وبالمقابل تجدها مادة أصيلة في الدراسات الاجتماعية في الجامعات الغربية، وذلك لأن فهم التغير الاجتماعي ونظرياته وكيفية التعامل معه هو من أهم ما يحتاجه المتخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ولعل من أبسط نظريات التغير الاجتماعي وأقواها دلالة نظرية صينية لعالم اسمه “داو دي جينغ”، يقول فيها بأن التغير الاجتماعي مثل الماء الذي يبدو رقيقا سائلا، إلا أنه في النهاية قادر على إزالة الصخور.
بكلمات أخرى، التغير هو أمر طبيعي متوازن هادئ وسلس الحركة ولكنه حاصل لا محالة.
الإيمان بالتغير الاجتماعي معناه أن نغير أنفسنا، أن نغير مفاهيمنا الاجتماعية التي تنتمي لمراحل سابقة من حياة المجتمع، أن نغير تفسيراتنا للأشياء وأجوبتنا على الأسئلة، وأن نبحث عن أطر جديدة للتفكير فيما يدور في العالم.
عندما تجد قوانين لم تتغير عبر أكثر من عقد من الزمن، فأنت في الغالب تنظر إلى قوانين لم تواكب التغير في المجتمع ولا نموه، وهذا ينطبق على الأفكار والرؤى والنظريات _ مع استثناء الثوابت مرة أخرى.
المرونة أمر ليس بالسهل، لأن التغيير صعب، والإنسان يحب بطبعه أن يستمر فيما هو عليه، وهذا يفسر جمود الكثيرين من الناس ويفسر جمود المؤسسات والأطر الاجتماعية، ومقاومة التغيير هي ظاهرة عالمية تدور حولها مئات الدراسات العلمية التي تحاول فك أسراره وإيجاد حلول لمعالجته بما في ذلك مقاومة التغيير ضمن الشركات التي تحاول تطوير منتجاتها.
والمرونة تحتاج للحيوية في المجتمع، تحتاج لعقل يفكر باستمرار، ويقرأ بلا توقف، ولا تحده القيود والرقابة الذاتية السلبية ولا الافتراضات التي لا يعرف أحد كيف جاءت واستمرت، وتحتاج لأمة لا تخاف من الإبداع ولا الخطأ ولا التغيير حتى تصل لما تريد.
كالماء الذي ينحت الصخر، تتغير مجتمعاتنا مهما قاومنا، فالتغير أمر حتمي، ولكننا إذا عرفنا كيف نتعامل معه فقد نحول الماء إلى قوة تنتج الطاقة النووية أو الكهرباء. يمكننا أن نغير ما بأنفسنا ونسيطر على عوامل التغير الاجتماعي لتتحول لقوة إيجابية حضارية وبناءة.
ويمكننا أن نستسلم ونلعن الظلام!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية