كانت العبارة الرئيسية التي شغلت مقدمي نشرات الأخبار عند إعلان فوز باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية الأمريكية هي أن “أمريكا اختارت التغيير” معبرين بذلك عن الفوز الساحق للديمقراطيين في المعركة سواء على مستوى الرئاسة أو الكونجرس كنتيجة طبيعية للأخطاء الهائلة التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش.
لكن التغيير الضخم والحقيقي الذي غمر أمريكا والذي قطف ثمرته أخيرا أوباما هو تحول أمة من حالة حادة من العنصرية ضد الأفريقيين الأمريكيين _ أو السود حسب التسمية الشائعة _ قبل ثلاثين عاما، إلى أمة يصوت نفس أفرادها لاختيار زعيم لهم من السود واختيار سيدة أولى غير بيضاء لتحتل البيت الأبيض.
كيف استطاعت أمريكا أن تحدث هذا التغير الهائل والعميق الذي تجاوز الأفكار ليصل للعواطف والتقاليد التي يبدو مستحيلا في العادة أن تتغير؟
البعض كتب معتقدا أن الأمر مجرد رد فعل على الجمهوريين، ولكن الحقيقة التي ينساها الناس أن أوباما فاز بانتخابات الحزب الديمقراطي قبل ذلك حيث تفوق على هيلاري كلينتون ومجموعة أخرى من المرشحين البيض.
ما لا يعرفه البعيدون عن الواقع الأمريكي أن أمريكا كشعب وكطبقة نخبة وكطبقة سياسية تسير شؤون البلاد وكأكاديميين ومفكرين وجمعيات مدنية قد اختارت منذ وقت جون كيندي، أن تحدث هذا التغيير والذي تطلب جهودا شاقة مثيرة للإعجاب والتأمل وتعلم الدروس لكل أمة تريد أن تصنع تغييرا مشابها.
صحيح أن كينيدي ربما دفع حياته ثمنا لهذا التغيير ولكن معظم ما صنعه الأمريكيون لنقل شعب من حالة تخلف “العنصرية” إلى حالة تقدم “المساواة” يمكن لأي أمة أخرى تنفيذه أيضا لو شعر نسبة كافية من الناس بأن هذا التغيير ضروري ويستحق التضحيات.
الأمريكيون آمنوا بقيمة إنهاء العنصرية لأنهم شعروا بأهمية أن يعملوا كأمة واحدة لتحقيق إنجازهم الحضاري.
بعد ذلك بدأت برامج على مختلف المستويات تصل إلى كل جوانب الحياة الأمريكية لإلغاء العنصرية، وبدأت ما يسمى بأنظمة “التنوع Diversity” بالعمل، حيث كانت البداية مع مجموعة من القوانين الصارمة التي فرضت المساواة في أماكن العمل والمدارس والجامعات والعملية السياسية، ثم عملت المحاكم الأمريكية بدأب وجهد لتعريف هذه الأنظمة ومعاقبة مخترقيها وملاحقة المتطرفين البيض في البداية، ثم ملاحقة كل من يخترق هذه القوانين بما في ذلك الشركات التي لم تجد موظفين من الأقليات _ رغم اجتهادهم _ لتحقيق نسبة التنوع المطلوبة في القانون.
لقد صبر الأمريكيون على ضعف تأهيل الموظفين السود الذين لم يحصلوا على التعليم الذي حصل عليه أقرانهم من البيض، وصبروا على غضب السود الذين نالوا حقوقهم فجأة، بل إن عددا كبيرا من الولايات فرضت قوانين “الفعل التأكيدي Affirmative Action” الذي يشترط إعطاء نسبة من العقود الحكومية والتجارية للشركات الصغيرة التي يملكها السود مهما كانت.
كل جمعية مهنية أمريكية لديها قوانين لمراعاة التنوع، ولا يكاد يخلو ميثاق شرف من التأكيد على المساواة ودعم التنوع، ولا يكاد يخلو برنامج تدريبي لشركة أمريكية من برامج قبول التنوع.
أكثر من ذلك، لقد عملت الطبقات الواعية من المجتمع على الضغط على الطبقات الجاهلة على قبول الزواج المختلط وقبول العلاقات الاجتماعية المختلطة وهو الأمر الذي بدى في البداية أمر مستحيل.
كان هناك من رفض ومن قاوم وما زال هؤلاء موجودون، ونجحوا أحيانا وفشلوا أخرى، ولكن النصر كان في النهاية للتغيير وللمساواة والتنوع، وكان للضمير الاجتماعي العام الذي قرر إنهاء أقبح وجه لأمريكا منذ تأسيسها.
لدى البعض، أوباما رمز للإنجاز الفردي لرجل صنع التاريخ، ولكنه بالنسبة لي رمز لقصة تحول مذهلة لشعب كان يمنع السود من أي حياة مشرفة إلى شعب ينتخب قائدا أسودا في البيت الأبيض. إنها قصة نادرة الحدوث في تاريخ البشرية.
لما تم انتخاب أوباما، ولد الحلم من جديد بأن يستيقظ الضمير العربي العام ويبدأ في البحث عن المشكلات التي يعاني منها، ثم يبدأ بعمل حثيث وذكي وطويل المدى لمعالجة هذه المشكلات حتى نتجاوز التخلف الصعب الذي نعيشه.
من المهم أن ندرس تجارب التغيير حتى نتعلم منها، ولكن من المهم أكثر أن تكون لدى الطبقة الصانعة للوعي والرأي العام القرار الجماعي بالتغيير نحو حياة أسمى وأعظم.
انتخاب أوباما دليل تاريخي على إمكانية التغيير مهما كان عمق المشكلة واتساعها، أو كما قال أوباما: Yes We Can.
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية