كان يوم الخميس الماضي حاد القسوة على الجميع في قناة العربية.
وصلت المكتب في دبي في الصباح الباكر، وكنت من أوائل من علم بخبر الاغتيال الغادر لمراسلة العربية في بغداد، وخلال لحظات من إعلان الخبر على الزملاء كانت صالة العربية تغرق في حزن عميق وغضب لا ينتهي على الأيدي المتعطشة للدماء والقتل والدمار.
هناك عدة سيناريوهات محتملة تحدد من قتل أطوار بهجت، وإن كانت في النهاية ستبقى على الأغلب ملفا مفتوحا يضاف إلى آلاف الملفات المفتوحة بحق أبرياء العراق الذين أحيلت جرائم قتلهم إلى أرشيف المجهول، ولكن من الواضح للجميع أن أطوار وأكثر من ثمانين شخص برئ قتلوا في ذلك اليوم ذهبوا ضحية موجات العنف التي تجتاح العراق أسبوعا بعد أسبوع.
سأكون في منتهى المثالية لو قلت أن الحل يكون بتوقف العنف، ولو حملت ثقافة العنف والإيمان به مسؤولية الدمار الذي حل بالعراق، ومسؤولية الأبرياء الذين قتلوا، والنساء الذين شردوا والأطفال الذين اغتيلت طفولتهم.
سأكون مثاليا لو طالبت بعالم خال من العنف، وسأكون مثاليا أكثر لو طالبت بنزع فكرة القتال وركوب الخيول لتحقيق الانتصارات من عقول العرب، وخاصة أن هذا القتال يكون مشروعا أحيانا!!
لكن تحديد مشروعية القتال والعنف هذه يبدو أمرا مستحيلا. بكلمات أخرى، من المستحيل أن نحدد أسبابا واضحة متى يحق للناس القتال واستخدام العنف والتدمير، لأنه يمكن ببساطة للعقل البشري المعروف بسطحيته وعاطفيته ووقوعه في الإغواء والوهم بسرعة، يمكن ببساطة لهذا العقل أن يخترع أسبابا تجعل العنف مشروعا.
لقد وافق الكثيرون عندما رأوا شعلة العنف تندلع في العراق بعد سقوطها على أيدي المحتل الأمريكي، ورغم أن هؤلاء الكثيرين يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذه الحملات لن تنال إلا العراقيين الأبرياء، فقد وافقوا رغم ذلك أن يكون هناك ضحايا كل يوم لأجل الانتقام من الأمريكيين ولو قليلا.
هناك مئات الآلاف من الناس في كل بلد عربي يظنون أن هذه العمليات التفجيرية التي تستهدف الأمريكيين ويموت فيها العراقيون أمرا عظيما لأنه مقاومة للمحتل، بينما هم ينعمون بحياة مرفهة، ولم يلمسوا يوما قسوة فقدان أب أو أخ أو ابن بسبب عملية قام بها متهور فمات فيها عشرات الأبرياء وتألم الآلاف، وعاش وطن كامل في حياة قاسية بسببها.
أيضا كان من السهل على أي طائفة دينية أن تبرر الاعتداء والعنف ضد طائفة أخرى، حصل ذلك في لبنان وفي يوغسلافيا وفي العراق وفي دول عديدة في العالم، المبررات جاهزة ومتاحة على الرصيف لمن يريد التقاطها.
كذلك من السهل على الدول أن تخترع مبررات للحروب إذا قبلت مبدأ الحرب.
ما دمنا قبلنا وشجعنا مبدأ الحرب الأمريكية على يوغسلافيا لأنها جاءت لصالح المسلمين في البوسنة، فإن علينا أن نقبل مبدأ الحرب الأمريكية على العراق، وأي حروب أخرى في السابق، لأن المبررات كما قلت متاحة دائمة ما دام مبدأ قبول الحروب موجودا.
لقد آمن كثير من الناس في الغرب والشرق بعد تجارب طويلة مريرة مع الحروب والعنف بأن الحرب كلها دمار، ولذلك فهم يخرجون للشوارع ويحتجون ضد أي حرب مهما كانت مسبباتها، لأنه دائما يمكن استبدال العنف بطرق أكثر حضارية في التعامل، احتجوا على الحرب في فيتنام، والحروب من بعدها، واحتجوا على الحرب ضد يوغسلافيا وعلى الحرب ضد طالبان وضد نظام صدام، لأن الحرب والعنف لا يمكن أن يكون دمارا مهما كانت المبررات.
في العالم العربي هناك عشرات المفكرين الذين صاروا يؤكدون دائما على مبدأ البحث عن السلام والابتعاد عن العنف في حل مشكلاتنا ومن هؤلاء المفكر الشهير مالك بن نبي، وجودت سعيد، وخالص جلبي، وغيرهم كثير.
لقد ماتت أطوار، ومات غيرها كثيرون بسبب هذا الإيمان الذي يجري في عروقنا بأن حل المشكلات لا يكون إلا بالسيف أو البندقية، والإيمان بأن الرصاصة هي رمز القوة، وبأن الحلول الحضارية لا تنفع، وحتى تتأكد من أننا نؤمن بهذه المبادئ، اعرضها على نفسك وعلى عشرة أشخاص من حولك ولن تفاجأك النتيجة.
وماذا عن مفهوم الجهاد؟
حسب هؤلاء المفكرين الإسلاميين، الجهاد يهدف لنشر الإسلام، ونشر الإسلام صار ممكنا بألف طريقة أفضل من أن يفجر الشخص نفسه في سيارة حتى يقتل أمريكي ومعه عشرة أبرياء.
نشر الإسلام صار ممكنا بالكلمة والإعلام والتكنولوجيا، بل إن أسوأ طريقة لنشر الإسلام هي ما يقوم به هؤلاء الدعاة الفاشلون من تشويه للإسلام وجعله ملتصقا في أذهان من لا يعرفونه بالعنف والقتال والدمار.
لهذا السبب يجعل القرآن الكريم قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، لأن القتل عندما يبدأ لا يعرف نهاية، والحل فقط أن لا يكون هناك قتل على الإطلاق.
في أفغانستان لما انتهت الحرب بخروج الاتحاد السوفييتي وهزيمته، لم يستطع الأفغان أن يتخلصوا من ثقافة العنف التي تغلغلت فيهم فوجدوا الأسباب وبدأت حرب أهلية شديدة العنف قتل فيها مئات الآلاف، وما زال العنف مستمرا إلى يومنا هذا.
لقد ماتت أطوار، لأننا جاهزون لتشمير سواعدنا وحمل البندقية متى ما وجد السبب، والأسباب مجانية متاحة بكثرة على الرصيف.
ماتت أطوار، وسيموت غيرها كثيرون وسيبقى الشقاء عنوانا لوطننا الإسلامي ما دمنا نتقبل العنف والقتال إذا تناسب مع أمزجتنا ومبرراتنا العاطفية وابتعدنا عن العقل في حل مشكلاتنا.
رحم الله كل الأبرياء.. !
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية