كانت الأيام الماضية قاسية بكل ما تعنيه الكلمة على كل عربي ما زال متمسكا بإنسانيته.
ما حصل في فلسطين ولبنان، وما كان على الأبرياء أن يقاسوه، مع العجز الهائل على كل المستويات عن معالجة المشكلة ترك أطنانا من الحزن واليأس والألم تتسرب إلى القلوب والأرواح المتعبة.
ولعله من المسلم به أن كل الأمم بلا استثناء تمر بمراحل تاريخية من الضعف والهزيمة وفقدان الكرامة، وقد مر المسلمون بهذه المراحل من قبل، في عهد الحروب الصليبية، وإبان غزو المغول، وفي عهود الصراعات الداخلية العديدة التي مرت عبر القرون.
ومن النتائج الطبيعية للهزيمة الجماعية هو مرض “الذل”، لأن الإحساس بالكرامة أمر هام لكل إنسان ليحقق وجوده، يريد الإنسان دائما أن يكون فخورا بوطنه وانتمائه، شاعرا بالقوة والسيطرة والقدرة على رد كيد الأعداء وحماية شرفه وماله، وعندما يفقد هذا الشعور يصاب بجروح نفسية عميقة لا يسهل علاجها.
هناك حلول عديدة يلجأ لها الناس في مثل هذه الظروف.
أحيانا يكون العلاج هو الاستسلام الكامل وعدم التفكير أصلا في المقاومة، وقد حصل هذا عندما هاجم المغول بغداد، وكان الشخص يطلب منه أن ينتظر في مكانه حتى يأتي عدوه بالسيف ليقتله فينتظر لفترة دون أن يفكر في الهرب أو المقاومة، حتى يأتي من يجهز عليه، وهذا يحصل حاليا من الكثيرين الذين شعروا بأن ضعفنا صار مزمنا لا يمكن علاجه، سوى بالاستسلام للضربات المتتالية.
آخرون يقاتلون الذل بالصراخ والغضب والعاطفة الهياجة كلما جاءت الفرصة، والبعض يبحث عن أي بطولات وهمية ليثبت لنفسه أنه ما زال يقاوم الضعف، وهناك دائما من يصفق لهذه البطولات بينما هو جالس أمام شاشة التلفزيون حتى يعالج نفسه.
من جهة أخرى، ترى من يشغل نفسه بأي طريقة بعيدا عن الأجواء العامة، بينما البعض يعزل نفسه عن الواقع ويلجأ للتاريخ ليجد فيه عزائه، والبعض الآخر يهرب تماما ويهاجر إلى عالم آخر ليربط نفسه به وينتمي إلى كرامة الدولة الأخرى.
لما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لجأ الألمان للعمل الشاق بلا هوادة حتى ينسوا هزيمتهم، وخلال أقل من خمس سنوات، أطلقوا نهضتهم الصناعية، وهذا قريب جدا مما فعله اليابانيون الذين اندمجوا بعد الحرب في العمل الشاق والنشاط الاقتصادي والصناعي رغم شعورهم حتى اليوم بقسوة الهزيمة، ولا أدري ما السبب الذي جعل أمة تنتفض بهذا الشكل بينما أمم أخرى تستسلم وتلجأ للبكاء.
على المستوى العلمي، كانت هناك دراسات نفسية عديدة تعالج قضايا الذل وفقدان الكرامة، وركزت هذه الدراسات في البداية على الذل من الناحية الفردية، عندما تتعرض المرأة للاغتصاب، أو يتعرض الإنسان للظلم والسجن لسنوات طويلة، ولكن مؤخرا بدأت تظهر دراسات علمية عديدة عن الذل الجماعي ومهانة الأمم، وكثير من هذه الدراسات تنظر للعرب بعين حانية بحكمهم من أكثر الأمم في عالم اليوم تعرضا للهزيمة والانهيار.
أحد المجموعات الملفتة للانتباه في هذا المجال شبكة للعلماء المتخصصين في هذا المجال اسمها “دراسات الكرامة الإنسانية والذل”، موقعها على الإنترنت: www.humiliationstudies.org، والتي تختص بهذه الدراسات وتتبنى أجندة سياسية واضحة مفادها أن علاج النزاع السياسي من خلال إذلال الشعوب كما حصل في العراق له آثاره السلبية الحادة على المدى القصير والطويل، كما تبحث هذه الدراسات عن حلول نفسية واجتماعية لهذه المشكلات.
مؤسسة هذه المجموعة هي د. إيفلين ليندر، وهي طبيبة وعالمة نفس، وتعمل مع علماء في مختلف الجامعات الأمريكية والأوروبية، وسبق وعملت في الجامعة الأمريكية في القاهرة وتعلمت بعضا من العربية، وكانت تقدم هناك العلاج النفسي لأولئك الذين يعانون من أعراض الشعور بالذل والإهانة، وليندر نفسها ولدت في أسرة ألمانية _ كما تصف _ عانت كثيرا من الآثار النفسية للهزيمة في الحرب العالمية.
ربما كان الحل في جلسات جماعية للشعوب العربية حتى نتفادى آثار الفشل والهزيمة التي نعيشها، وربما احتجنا لـ”خبير” ياباني، ولكن الحل بالتأكيد لن يكون من خلال “البطولات المزيفة” لأنها تنتهي عادة بهزيمة جديدة وتساهم في تعميق الآلام والمهانة، وهذا ينطبق على جمال عبدالناصر وصدام حسين والزرقاوي وغيره.
البطولات الحقيقة لا تبدأ بخطب وتنتهي بوفاة الأبرياء!
* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية