لربما كان الإصلاح كذبة أخرى: وهل «يصلح» العطار ما أفسده الدهر؟

من قسم سياسة
الجمعة 17 ديسمبر 2004|

شهد الأسبوع الماضي إقامة منتدى المستقبل في المغرب بحضور عدد كبير من رجالات السياسة والفكر يتقدمهم ممثل الجمهوريين الوزير كولن باول، والذي تحدث وتحدث غيره عن رؤيتهم لإصلاح سياسي يدفع مسيرة العالم العربي نحو “الشرق الأوسط الكبير” وينتج عنه في النهاية حسب رؤيتهم نمو اقتصادي وسط تحسن الظروف السياسية.

وفي نفس الوقت أقيم المنتدى الاستراتيجي العربي في دبي لتمثل النظرية الأخرى والتي يتبناها الديمقراطيون الأمريكيون وذلك بحضور عدد من رجال السياسة والفكر أيضا وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ووزيرة خارجيته السابقة مادلين أولبرايت، والكاتب الديمقراطي توماس فريدمان، ورئيس الوزراء الماليزي عبدالله بدوي، والشيخ محمد بن راشد، راعي المنتدى، وغيرهم، ليقدموا رؤيتهم حول إصلاح “تنموي” يقود العالم العربي نحو النمو الاقتصادي الذي ينتج عنه لاحقا النمو السياسي.

المؤتمران كما هو واضح يمثلان الرؤيتين العالميتين حول الإصلاح، رؤية التسعينات التي عمل عليها كلينتون جاهدا، والتي تنطلق من العولمة الاقتصادية والنمو العالمي وسط ظروف سلمية عامة، على أساس أن هذا سيحقق للدول الكبرى أهدافها الاقتصادية التوسعية ويؤمن للدول الصغرى النمو الذي يحقق لمواطنيها الكرامة والحياة المريحة والتي ستقلل من الضغط على حكومات دول العالم الثالث فتبادر للإصلاح السياسي، وهي النظرية التي تأخذ بها الصين وعدد من الدول الأخرى حيث ترفض القيام بإصلاحات سياسية واسعة حتى تنتهي من تأسيس البنية الاقتصادية.

النظرية الأخرى، نظرية ما بعد عام 2000 والتي قادها الجمهوريون الجدد بقوة وتقوم على أساس القيام بالإصلاحات السياسية ودفع الحكومات لها دفعا والضغط عليها بكل القوة التي تملكها أمريكا ومن يؤازرها بحيث تؤدي هذه الإصلاحات لجو “ديمقراطي” عام يسمح بعدها بالنمو الاقتصادي.

وطبعا من الواضح أن الجمهوريين لم يعتبروا بما حصل للاتحاد السوفييتي السابق الذي رضخ للضغط الأمريكي الرهيب بقيادة الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريجان، وقام بالإصلاحات السياسية وما زال حتى الآن “بعد 14 عاما” يعيش الانهيار والفوضى عاجزا عن استرداد الاستقرار الذي يسمح بالنمو الاقتصادي أو حتى السياسي.

وقبل أن نتعمق قليلا في محاولة فهم ما يجري، لا بد من التذكير أن قضية “الإصلاح” ليست قضية جديدة، فالاعتراف بأن العالم العربي يعيش وضعا مترديا يحتاج للتطوير هو أمر مسلم به منذ بداية القرن العشرين، والنظريات التي طرحت حول كيفية الخروج من هذا الوضع القاسي كثيرة، شملت الرؤية القومية والرؤى الإسلامية المختلفة والرؤية الناصرية والرؤية الليبرالية والعلمانية، ووصلت بعض هذا الرؤى إلى التطرف سواء من ناحية الرؤية الدينية أو من ناحية اليسار المتطرف، وكانت النظرية الأخيرة التي خرجت بعد فترة يأس عميق هي العنف، والذي أدى لكل الأحداث المؤسفة التي يمر بها العالم اليوم.

أمريكا كواحدة من ضحايا هذا الرؤية “الاستئصالية” فهمت بالضبط ما يحاول “الإرهاب” القيام به، وقررت هي الأخرى أن تقدم رؤيتها للتطوير وأن تفرضها على العالم العربي والإسلامي وطبعا أن تمرر من خلالها كل المصالح الأمريكية التي تريد تحقيقها في المنطقة.

لكن سؤالا محوريا هاما يتهرب الجمهوريون من الإجابة عليه وفعلوا ذلك بمهارة فائقة خلال الحملات الانتخابية الأخيرة، وهو هل يمكن لأمريكا أن تقدم رؤيتها للتنمية والتطوير والإصلاح، وأن تنجح في دفع أجندتها إذا كان الناس في العالم العربي ينظرون لأمريكا بكثير من الشك والكثير من الرفض أيضا.

الأمريكيون في ما حاولوا تنفيذه في العراق وما يحاولون فعله الآن يشبهون المعلم الذي يدخل على طلابه مزمجرا غاضبا فيضرب هذا ويركل ذاك، ثم يتوقع من الطلاب أن يقبلوا على دروسه بشهية بل وربما أن يحبونه بعمق أيضا.

وإذا تذكر الأمريكيون ما يعرفونه عن الشرقيين بأنهم عاطفيون تصل إلى عقولهم عن طريق قلوبهم يصبح ما يفعلونه في المنطقة أشبه ما يكون باللغز الذي ليس له حل.

البعض يقول بأن “الصقور” في الإدارة الأمريكية يفهمون هذه المعادلة، وقرروا بلا تردد أن يضغطوا على الطلاب بكل “وسائل الضغط الممكنة” حتى يذاكروا وينجحوا في الامتحان ليتجنبوا فقط “الفلقة” تلو الأخرى، وأن كل المؤتمرات والمشاريع التي تعقد هي مجرد أعمال يقيم بها المتشددون الحجة على “الحمائم” في الإدارة الأمريكية وعلى العرب بأن هذه المشاريع السلمية لا قيمة لها، وأن الآوان قد حان ليرفع الطلاب أرجلهم وأيديهم ويستقبلوا ضربات الأستاذ الواحدة بعد الأخرى.

ولعل ما يؤكد هذه النظرية المقال الذي نشر في جريدة نيويورك تايمز في نفس اليوم الذي كان فيه باول يتحدث للعرب عن الإصلاح، والذي يقول بأن أمريكا مضت فعليا في استخدام وسائل متعددة أكثرها من النوع السري الذي يمضي تحت الطاولة لاستخدام معلومات خاطئة بهدف تضليل الرأي العام العربي.

أي ببساطة، سمحت أمريكا لنفسها الكذب على العرب لتحقيق أهدافها، وهذا كما هو معلوم من أساليب الدعاية التي تستخدم عادة في الحروب، فهل يخوض الأمريكيون حربا مع العرب؟

وإذا كان الجواب بنعم، فكيف يتوقع الأمريكيون من الشعوب العربية تفهم رؤيتهم “الإصلاحية”، وكيف يستطيع الناس التفريق بين ما يقوله الأمريكيون كحقيقة صادقة تعبر عن رغباتهم الحقيقية نحو العرب، وبين ما يقولونه كعبارات دعائية يستخدمونها لأهداف معينة؟

إننا نعاني من وضع قاسي ابتليت به العرب حكومات وشعوبا، تسببت فيه مئات السنين من الأخطاء والتراجع في وقت كان العالم فيه يتقدم، حتى تعقدت مشكلاتنا وتداخلت وصارت مثل كرة الخيوط التي لا تعرف أولها من آخرها.

نحن بحاجة لمنتديات متواصلة مثل منتدى دبي الاستراتيجي، وبحاجة لكل الجهود الصادقة التي تتقدم بنا نحو الأمام وتخرج بنا من أنفاق الظلام، ولا مانع أبدا من تلقي العون لتحقيق هذه الأهداف من أمريكا وغيرها، ولكننا جميعا يجب أن ندرك أننا نتحدث عن مصير أمة عانت الكثير، ولديها شكوك حول كل من يحاول الإمساك بيدها، وأن قصة الإصلاح هذه يجب أن تأخذ سنوات طويلة جدا من العمل الشاق تحوطه رؤية واضحة، ولا يمكن أبدا إنهائه قبل نوفمبر 2008!!

* نشر المقال في جريدة الاقتصادية السعودية